أية حداثة نريد ؟

أية حداثة نريد ؟

بقلم: محمد بن سالم بن عمر *كاتب و ناقد تونسي*

رغم مرور أكثر من قرنين منذ أن غزا بونابرت مصر عام 1798م فان
سؤال ‹‹كيف نتقدم ؟ ››لا يزال يطرح بأشكال متعددة. فمنذ تلك الغزوة بدا العرب يفركون عيونهم بعد نوم عميق كان سببا في إخراجهم من حلبة الصراع الحضاري لزمن طويل. وقد اختلفت المقاربات و تنوعت في كيفية امتلاك منابع القوة و القدرة على الفعل وصنع أحداث التاريخ مرة أخرى كما كان أجدادنا يفعلون منذ انبلاج فجر الإسلام العظيم. فهم قد امتلكوا ناصية الأمم لردح طويل من الزمن و قادوها بالنور الذي انزله الله رحمة للبشرية كافة ...
لقد أضحت قضية ما صار يعرف ب" الحداثة " قضية محورية مزمنة في تاريخ المجتمع العربي الاسلامي الحديث، ولم تتوضح الحلول المقنعة لجميع الأطراف إلى حد لان، و كمثال لذلك نجد الأستاذ الجامعي الصادق شعبان يقول حول التجربة التي خاضتها تونس في عهد الرئيس الحبيب برقيبة :‹› قد كانت سياسة برقيبة مغالية في الارتباط بالغرب ، وقد خلفت حقدا دفينا لدى الشعب التونسي المتعلق بهويته الثقافية العربية الإسلامية ، و التي لم يقبل تهميشها و تقزيمها ››∙﴿ المرجع: " بن علي و الطريق إلي التعددية ص 44 ﴾
و يقول الأستاذ عبد الباقي الهر ماسي وزير الثقافة الحالي في جريدة الرأي بتاريخ 30 جانفي 1987 ص22:‹‹ أن الهوية الثقافية ما تزال تمر بمرحلة تذبذب واضطراب، وانه لا مجال لتحقيق الحداثة علي حساب هذه الهوية ›› ∙∙∙
وفيما يلي سأحاول تقديم مقاربة لقضية الحداثة عساي أساهم ولو بلبنة في المضي قدما للحسم في هذه القضية الشائكة ....

فماذا نقصد بالحداثة تحديدا ؟


ما نعنيه بالحداثة هو: ‹‹ ذلك الصراع المحتد بين الأمم من اجل آن تكون امة هي الاقوي و الأغنى و الاربي من بقية الأمم و امتلاك القدرة على التغيير الذاتي و التطوير المستمر نحو الأفضل لجميع هياكلها المسيرة ،
و يحصل أهلها على الأمن من الاعتداءات ، مطمئنة مستقرة لا يخاف أهلها ولا يضائقهم شئ ، ... يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ...... ››
و على النقيض من ذلك فان الأمة المتخلفة هي تلك التي يعيش أفرادها الجوع و الحرمان و الفزع و الهلع و يشتد ألمهم علي مر الزمان.

فما هو السبيل إلي الحداثة إذن ؟


لقد احتاجت الشعوب التي استطاعت تشييد حضارة و قيادة الأمم في مرحلة زمنية معينة و تتوفر علي معاني الحداثة التي حددناها أنفا إلى
‹‹* فكرة إنسانية سامية* ›› تأخذ بالألباب و تبهر العقول و تثير العواطف الإنسانية و تحرك الحواس... فلقد حمل العرب فكرة ‹‹*إخراج الناس من الظلمات إلي النور* ››... ورفع الغرب شعار ‹‹*تخليص الإنسان من القصور الذي كبلته به الكنيسة بوصايتها عليه و الدعوة إلي الحرية
و الأخوة و المساواة*››... ووعد الاشتراكيون أتباعهم بـ ‹‹*إيجاد جنة أرضية للعمال المسحوقين* ››...
و هكذا احتاجت هذه الحضارات الثلاث ـ/ الإسلامية والغربية
و الاشتراكية/ ـ إلي ‹‹فكرة إنسانية سامية ›› لتجلب إليها الأنصار
و تكسبهم إلي صفوفها و تجعلهم مستعدين للنضال و التضحية في سبيل إنزال هذه‹‹ الفكرة السامية ›› إلي الواقع المعيش ليحيا في ظلها الناس، بل وكان الأنصار هذه الفكرة يغزون أو يفتحون أو يستعمرون الأصقاع باسم هذه ‹‹الفكرة الإنسانية السامية ››. ولقد مثلت ‹‹ ﺍﻠﺣﺪﺍﺜﺔ ›› دائما قطيعة تامة بين عهدين عهد الظلمات و المظالم و التخلف و عجز الإنسان عن الفعل الايجابي و الغيبوبة التاريخية، و بين عهد جديد يتحرر فيه هذا الإنسان من سلطة التراث و التبعية و التقليد لهذا الطرف أو ذاك و امتلاك زمام النفس و المبادرة و كسر القيود ـ بمختلف تشكلانها التي تكبله....... و تمنعه من التحاور مباشرة مع واقعه ، و اختيار أنجع الطرق و الوسائل و التقنيات لتجاوز الموروث سواء أكان هذا الموروث ينتمي إلي حضارة الأجداد أو حضارات الأمم الأخرى ، قديما كان أو حديثا .. ....
فالإنسان‹‹الحداثي ›› هو ذاك الذي يمتلك القدرة الفائقة علي الاستفادة من الموروث الإنساني في جميع الميادين متحررا من كل ما يعيقه عن الإضافة و الإبداع و التجاوز و مزيد بسط سلطته و هيمنته على الكون و الحياة و الارتقاء بأخيه الإنسان إلى السيادة المطلقة على كل شيء في هذا الكون الشاسع ، حتى يتفرغ بعد ذلك لعبادة خالق الكون و الحياة ، فالإنسان سيد وحيد لهذا الكون و الله رب وحيد للإنسان ، فلا يخضعن هذا الإنسان لسلطة أخري مهما كانت ... سوى لسلطة خالق الكون
و الحياة و الإنسان . و هو في كدح متواصل حتى يلتقي بالملا الأعلى و قد أفرغ جميع شحناته و طاقاته و قدراته في هذه الأرض التي قبل أن يكون سيدا عليها و عبدا لخالقها و حاملا لأمانة السماء ...
*********************************************
لقد ابتلي المسلمون قديما و حديثا بمن حول أحداث التاريخ و تجارب المسلمين السابقة إلي صنم / عائق يتعبدون في محرابه مرددا قول العرب القدامى في مواجهتهم للإسلام:‹‹* ما سعنا بهذا في آبائنا الأولين*›› و ‹‹* إنا وجدنا آبائنا علي امة وإنا علي أثارهم مقتدون* ›› متناسين قوله تعالي:‹‹* تلك أمة قد خلت لها ما كسب و لكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون* ›› ﴿ البقرة 134 و قد تكررت نفس هذه الآية في نفس السورة عدد141 ﴾ .
و قد حالت هذه المواقف المتخلفة بيننا و بين الحداثة الحق ورؤية ما يدور حولنا من أحداث متجددة ووقائع حياتية معاصرة تفرض علينا حلولا أخرى غير التي ارتآها أجدادنا لتغير الملابسات ! و كل هذا يتطلب اجتهادا و إعمالا للعقل لاستنباط الحلول الملائمة للمشكلات التي تواجهنا في الحياة و تعيق بلداننا عن النهوض و التقدم و تحقيق العزة...
و من أولئك من عطل باب الاجتهاد بحجج واهية وأسانيد باطلة ركونا إلى الكسل و الاستكانة وهروبا من معركة الحياة و متطلباتها...

* كما ابتلينا بمن اتخذ منجزات الغرب و حضارته صنما / عائقا يعتقل عقلنا و يمنعنا من فهم متطلبات حياتنا و تحقيق سيادتنا على حاضرنا و مستقبلنا. وقد حال كل ذلك بيننا و بين الاعتماد على النفس لتحقيق إنجازاتنا الحضارية الخاصة بنا حتى نكون أهلا لقيادة العالم من جديد.
فما نملكه من ثوابت إلهية في جميع ميادين الحياة يعطينا الحق في قيادة الشعوب و التصدر لتوجيهها نحو الخير و الفضيلة لنكمل رسالة من ابتعثه الله رحمة للناس كافة.
*إن الإبداع الحضاري و الابتكار مرهون إلي حد كبير بثقة الإنسان في صحة مبادئة واعتقاده في تفوقها على جميع المبادئ الاخري. و إن ما نتج عن الحضارة الغربية إلي حد الان من تعميق للهوة بين الفقراء و الأغنياء و من احتجاجات عالمية عن ‹‹الكيل بمكيالين ›› و ما نراه و نسمعه من تطاحن رهيب و تقاتل علي الحكم و المسؤولية باسم الديمقراطية الغربية.. و عدم استقرار للمجتمعات الغربية نفسها، و انتشار الظلم و العنصرية واستفراد أقلية بالثروات الكونية... كل ذلك يجعل من إقناع الآمة الإسلامية
بصحة هذه المبادئ و القيم الغربية أمرا متعذرا إن لم يكن مستحيلا، خاصة و هي الوارثة للقران الذي لم يثبت إلي حد اليوم أنه يحتوي على آية واحدة من شانها أن تعرقل التطور أو تقف في وجه الإبداع الحضاري في مختلف الميادين ، لأنها لم تعالج مطلقا متغيرات الحياة البشرية و إنما نصت جميعها علي الثوابت ـ الحقائق ـ في الكون و الحياة و الإنسان و هي معادلات تخترق الزمان و المكان و قد تركت هذه الآيات حرية الإبداع و الاجتهاد في كل المتغيرات التي يمكن أن تطرأ على حياة الإنسان ، بشرط استلهام هذه الحقائق في اجتهاداته المختلفة . ففي قضية العلم مثلا نجد النص القرآني لم يحدد مطلقا الوسائل و الأساليب التي يمكن أن يتبعها الإنسان لتحصيل العلم و اختراق الآفاق و تحقيق الاكتشافات لأنها متغيرة بتغير الزمان و المكان و بحسب اجتهاد الإنسان و حاجاته، لكنها أجمعت كلها على ضرورة طلب العلم و جعله مفتاحا لكل ما يفيد الإنسان في دينه و دنياه، و في السياسة نص القران علي وجوب الشورى في جميع ما يهم شؤون المسلمين الخاصة و العامة و حث المسلمين علي العدل و اجتناب الهوى و عدم التفريق بين الناس و تحريم الفساد في الأرض أو قتل النفس
التي حرم الله إلا بالحق أو جعل ثروات البلاد ـ التي هي ملك لله ـ دولة بين الأغنياء. و طالب باشتراك المسلمين جميعا في تحمل المسؤولية و تكوين : "* امة*" تأمر بالمعروف و تنهي عن المنكر ... و هكذا دواليك...... و دور الإنسان أن يعتمد هذه الثوابت المعلنة لاستنباط المؤسسات الكفيلة بإنزالها إلي حيز الواقع المعيش حتى ينعم الناس ـ جميع الناس- و لا أقول المؤمنين فقط ـ برحمة السماء و يأمنوا علي حياتهم و أرزاقهم
و مكتسباتهم و يمتلكوا القدرة علي الإضافة و الإبداع و يواصلوا أداء رسالتهم في الحياة ......

‹‹* قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي و لو جئنا بمثله مددا ››﴿الكهف آية عدد 109 ﴾ فما الذي أصابنا في العصر الحديث حتى صرنا عاجزين عن استنباط ما يلزمنا لإصلاح معيشتنا انطلاقا من آيات الله التي لا تنفذ معانيها أبدا !! ؟؟؟؟
إن اقتحام أ متنا لعصر العوامة باقتدار و جدارة و امتياز رهين لشروط و قرائن لأبد من استحضارها جميعا حتى نفوز بقصب السبق في جميع الميادين الحضارية
* إذ لابد من استعمال عقولنا و حواسنا نحن لمواجهة مشكلاتنا الحياتية
و استنباط ما يلائمنا من حلول لمختلف مشكلاتنا بما يتوافق مع مصلحتنا حاضرا و مستقبلا بدلا من استنساخ الحلول القادمة من وراء البحار و إسقاطها علي مجتمعنا و الكف عن استعارة عقول ‹‹الآخرين ››
و طرق تفكيرهم و مناهجهم في بحث المشكلات العالقة.
**لا بد من استحضار الواقع المعيش بكل تجلياته و تعقيداته . و لا فائدة من ستر أمراضنا مهما كان الداء مستحكما بدعوى الحفاظ على أسرارنا
و عيوبنا حتى لا يستغلها الأعداء !! إن منطق التستر على الآفات التي تكدر صفو حياتنا السياسية و الثقافية و الاجتماعية و العلمية و غيرها قد زاد الطين بلة حتى صارت الجراثيم تصول و تجول و ترتع حيثما شاءت و تعفن ما قدرت على اقتحامه من حياتنا حتى بدا لنا العلاج متعذرا لشدة ما فتكت بنا الأمراض و ألحقته في نفوسنا من أذى و في أجسادنا من جراح مثخنة. و كل هذا يتطلب و قفة حازمة صادقة خالية من العقد لنواجه بصبر و ثبات و ننقذ حياتنا مهما تطلب ذلك من تضحيات....

*** لا بد عند بحثنا لمجمل قضايانا أن نعود إلي ثوابتنا القيمية و الحضارية و التي يمكن اختزالها في القران أساسا مستعينين في فك المستغلق من هذه الثوابت ـ إذا شئنا ـ بإنجازات كل الحضارات الإنسانية بدون استثناء دون إن يعيقنا ذلك عن المضي فدما في طريق بناء الحضارة مستفيدين مما يمكن الاستفادة منه ودون الارتهان لتلك الإنجازات قديمها و حديثها.

إن أخذ كل هذه الشروط و الاعتبارات لمواجهة كل مشكلاتنا الحياتية و الحضارية من شأنه أن يعيد لنا القدرة علي الفعل و التحفز أكثر على الإنجاز و اختراق الأفاق و بلوغ ما وراء العرش تطورا و ازدهارا و تقدما حتى نكون أهلا لقيادة مسيرة البشرية من جديد.

محمد بن سالم بن عمر
كاتب و ناقد تونسي
12 شارع الجمهورية سيدي بوعلي4040 ولاية سوسة. تونس
الهاتف:0021623038163

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ردا على حقارة البورقيبيات و البورقيبيين ؟

عروس البحر بين الحقيقة و الخيال ؟!

البلاغ الذكية | ما اسم رئيس تونس القادم؟