الظروف التاريخية لتطور اللغة العربية و انتشارها



الظروف التاريخية لتطور اللغة العربية و انتشارها

بقلم : محمد سالم بن عمر- عضو اتحاد الكتاب التونسيين .
Mohamedsalembenamor21@yahoo.fr
http:islam3mille.blogspot.com
86، حي الليمون ، منزل بورقيبة 7050 / ص.ب :260 ولاية بنزرت – الجمهورية التونسية .
الهاتف : 23038163 (00216)

لقد أحب العرب القدامى ، قبل مجيء الإسلام ، لغتهم و تباروا في إتقانها و تجويدها واستعملوها في حلهم و ترحالهم، و في خطبهم و أشعارهم ... و شهدت منطقة الجزيرة العربية أسواقا أدبية عديدة من أشهرها : عكاظ و مجنة و ذو المجاز و غيرها .. و كان عكاظ أشهرها جميعا، فكانت تنتقى فيه القصائد العصماء التي اشتهرت باسم ﴿﴿ المعلقات )﴾ لتعليقها عند الكعبة بعد تمحيصها و خضوعها لإشراف و نقد دقيق وضعت نظمه قريش .
و بعد مجيء الإسلام ترقت بلاغة العرب بسبب نزول القرآن ﴿بلسان عربي مبين ﴾. فأصبح كلام المسلمين من العرب أعلى طبقة في البلاغة و أذواقها من كلام أهل الجاهلية في نثرهم و نظمهم ، فنجد شعر حسان بن ثابت و عمر بن أبي ربيعة و الحطيئة و جرير و الفرزدق ... ثم كلام الشعراء في الدولة الأموية و صدر الدولة العباسية ارفع طبقة في البلاغة من شعر النابغة و عنترة وابن كلثوم، و زهير و علقمة و طرفة و من كلام أهل الجاهلية، لأن هؤلاء قد سمعوا و حفظوا القرآن "وهو من خلق الله الواحد و إبداعه المتفرد" و الذي عجز الجن و الإنس عن الإتيان بمثله ، فنشأت على أساليبه نفوسهم ،فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة عن ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية.
و لقد انطلق آباؤنا المسلمون من الجزيرة العربية زاحفين إلى أقاصي الأرض ، متجاوزين الآفاق البعيدة التي لم يحلموا بالوصول إليها من قبل ، ليؤدوا الأمانة الكبرى التي اختارهم الله لها دون غيرهم من سائر الأمم، و حمل رسالة الإسلام ونواميسه الفطرية الأزلية الخالدة إلى كل شعوب الدنيا . و قد كانوا في الوقت نفسه حملة للغة العربية، لغة الإسلام . فبها وحدها يستطيعون نقل تعاليم الإسلام الحقيقية و آياته البينات إلى الآخرين،و بها وحدها يستطيع المسلم الجديد أن يكون مسلما حقيقيا ، مستوعبا ومستجيبا لكل أوامر الله و نواهيه في القرآن، ألم يقل عمر بن الخطاب رضي الله عنه :﴿ تعلموا اللغة العربية فإنها من دينكم ﴾. و يقول أبو إسحاق ألشاطبي ﴿﴿ في الموافقات﴾) : ﴿إن هذه الشريعة المباركة عربية فمن أراد تفهمها فمن وجهة لسان العرب و لا سبيل إلى تطلب فهمها من غير هذه الجهة﴾، فالدين الإسلامي لم يكن مجرد عقيدة و تشريع و مبادئ يعتنقها المسلم فحسب، بل هو معجزة فنية ، لغوية و فكرية، معنى و مبنى، بعث الله بها إلى الأرض لتصغي إليها قلوب تحجرت فتلين ، و تتعلق بها عيون جفت فيها المشاعر فتتفجر بالدموع ، و عقول تراكم فوقها غبار القرون ، فانجلت و تجددت و اهتدت بنور الله وهي تستيقظ على هذا الصوت الرباني الذي جاء يتحداها فيما تحدت به من قبل كل البشر : البيان و البلاغة ، - معنى و مبنى - و بذلك ارتكز المسلمون الأوائل الأكثر تعبيرا عن حقيقة الإسلام و مراميه ، على ازدواجية الدعوة لدى الشعوب المفتوحة : دعوة القلوب إلى الإيمان و الألسنة إلى التعريب . فدخل الناس في دين الله، و الألسنة في لغة القرآن أفواجا ، فصنعوا حضارة لا تزال معالمها إلى اليوم شاهدة عليهم .
و لقد مر الحرف العربي وصولا إلى ما هو عليه بمراحل تحسينية عديدة ،عبر سنواته الطوال ، بدءا بالحرف غير المنقط ، و قد كان يقرأ غير منقط و غير مشكول دون خطإ حتى من الصبية لأنهم رضعوا الكلام الصافي من المنهل الذي نهل منه آباؤهم فجاء كلامهم فصيحا.
فلما جاء الإسلام و أنار الدنيا بتعاليمه ، دخل الأعاجم فيه و اختلطوا بالعرب و تعلموا لغتهم ليفهموا تعاليم الإسلام و يحملوا مع إخوانهم أمانته ، فظهرت حينها أخطاء القراءة و الكلام ، فاجتهد أبو الأسود الدؤلي لمعالجة الموقف، فقام بوضع أول علامات لشكل اللغة العربية حيث طبقت لأول مرة على القرآن الكريم .
ثم جاء الخليل بن أحمد الفراهيدي مكتشف بحور الشعر العروضية و واضعها ، فزاد اللغة تحسينا و تجميلا آخر ، حيث طور حركات أبي الأسود الدؤلي بحركات أكمل وضوحا ، وهي نفس الحركات التي نستعملها اليوم .
و في زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عهد إلى نصر بن عاصم و يحيى بن يعمر إيجاد حل للتفريق بين الحروف المتشابهة كالباء والتاء و الجيم و الحاء و الخاء ... حيث قاما بوضع النقاط على الحروف المتشابهة ، و كانت هذه المرحلة أتم المراحل في تزيين الحروف العربية مما جعلها أكثر بهاء و بريقا و حماية للألسن من الخطإ.
و لقد تواصل اهتمام المسلمين بلغة القرآن الكريم ، و كانوا يعتزون بها و يفخرون ، حتى راحوا يذبون عنها كل شائبة ، و يبينون خصائصها ، و جمالها ... فازدهرت العلوم اللغوية على أيديهم أيما ازدهار ، و برزت في سماء العلم أسماء رجال أجلاء عرفهم العالم و شهد لهم العلماء من جميع أصقاعه نذكر منهم بالإضافة إلى أبي الأسود الدؤلي و الخليل بن أحمد : سيبويه ، و أبي علي الفارسي ، وابن جني و ابن فارس ، و الثعالبي و السيوطي و الأصمعي و الجرجاني و قوافل أخرى ممن خلفوا لنا تراثا تفوق فخامته ما أتى به غيرهم و استوفت اللغة جميع جوانبها النحوية و الصرفية و الصوتية و المعجمية و البلاغية . و لقد تملك كل هؤلاء حب اللغة الفصحى، و أخلصوا للغة القرآن ، و ظلوا على ذلك حتى استوت علوم اللغة العربية و اكتملت فروعها . و عندئذ أضافوا استطردات مبسوطة وافتراضات كثيرة ، و طرقوا مسائل وهمية ، تخيلوها و كدوا أذهانهم في حلها .
كما برع الخطاطون المسلمون في رسم اللغة العربية ، و أبدعوا خطوطا جديدة زينتها بحلة قشيبة لا تزال تحتفظ بها و تنبض جمالا يأخذ بالألباب ، ذلك لأن الخط الجميل يزيد الحق وضوحا كما يؤكد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه .
إن جمالية الحرف العربي ، و مرونته الساحرة و رشاقته الخاصة بما له من أشكال متعددة ، متصلة و منفصلة و لا سيما إمكانية كتابة عبارة واحدة بأشكال عديدة ، و بصياغات جمالية متنوعة ، فتح الباب أمام فناني الحرف للتنافس في تجميله و تزويقه و تطويره جماليا باستمرار ، و لقد أولاه الدين الإسلامي الحنيف كل اهتمام ، من ذلك أن العديد من فواتح السور القرآنية تبتدئ ببعض الحروف : ألم ، ألمر، كهيعص، ق ، طه ، يس، ن ... ، و هل من تكريم للحرف أعظم من القسم به ، كما في سورة ﴿﴿ القلم )) : ﴿ ن ، و القلم و ما يسطرون) فالحرف يدل على ما في اللفظ ، و ما في اللفظ يدل على ما في الفكر ، و ما في الفكر يدل على الروح و الروح تدل على عظمة الله خالقها و العالم بأسرارها ، من هنا جاء الإهتمام بتجميل الحرف تفصيلا و جملة ، فظهر في العمارة ، و كأنه اللآلئ، مزينا المساجد و المآذن و القصور من الخارج و الداخل بآيات الذكر الحكيم ، و العبارات المأثورة من أقوال الرسول صلى الله عليه و سلم و الحكم و غيرها .
لقد زين الرسامون المسلمون المساجد و المنازل و القصور في مختلف البلاد الإسلامية و جملوا الأثاث و السجاد و الملابس و المباني على اختلاف أنواعها و الآلات كلها حتى المدافع و الكتب بتلك الحروف النورانية التي تكون مع بعضها البعض كتاب الله الخالد و الأزلي و المعجز ، و هناك من اللوحات البديعة التي لا تزال محفوظة في المتاحف و البيوت .
لقد انطلق المبدعون و جالوا و تفننوا في صياغة الحرف العربي و تركيبه ، في أنحاء العالم الإسلامي ، فدرس الفنان تراكيب مختلفة ، مراعيا العلاقات التكوينية في دراسة الفراغات ، فكان همه استمرارية ابتكار التكوينات التي تتآلف من انسجام الحروف و كأنها أصوات موسيقية مرئية ، تسمع بعينك و بروحك صوت اللآلئ المرصوفة، حاملة الألفاظ القرآنية المباركة ، و كانت غاية الفنان أن يبدع في تراكيب و تآليف يغور فيها الناظر ، و يرتع مكحلا عينيه بجمالها .
و هذا الإهتمام بالحرف العربي نتجت عنه أنواع كثيرة من الخطوط ، اللينة و المزواة ، و أصبح الخط فنا جماليا ، و ارتبط كليا بالحضارة الإسلامية ، و ساد على باقي الفنون ، و قد اشتهر من الخطوط : النسخ و الرقعة و الكوفي و الثلث و الفارسي و الديواني و تفرعت من هذه الخطوط خطوط كثيرة ، لقيت من الجميع الرعاية ، فأقدموا على دراستها و خاصة المسئولون من حكام و سلاطين و أمراء ، قال أحد الشعراء :

يخطط مولانا خطوط ابن مقلة
فينظمها نظم اللآلئ في السلك
فهذا عليه بهجة الخط وحدها
و ذاك عليه بهجة الخط و الملك
و الوزير ابن مقلة السالف ذكره في بيت الشعر هو من وضع الأسس و الأنظمة الهندسية للحرف ، ثم ابن البواب، ثم ياقوت المستعصي الذي أصبح قبلة الكتاب في عصره ، ثم ابن الصايغ ثم شفيق ، و حقي و ماجد الزهدي و حسين حسني ، و عبد العزيز الرفاعي ، و حامد الآمدي و سيد إبراهيم و هاشم البغدادي و غيرهم . و لقد انفرد بأسلوب التعليق الفارسي ، مير علي التبريزي ، و مير علي الهروي ، و مالك الديلمي و مير عماد الحسني و أسعد يساري و غيرهم .
لقد بذل هؤلاء الرسامون جهودا مضنية للارتقاء بالحرف العربي و ساهموا بقسط لا يستهان به في تحقيق مجد اللغة العربية و الخط العربي حتى أن ﴿ بيكاسو ) عبر عن إعجابه بالخط العربي قائلا : " إن أقصى نقطة أردت الوصول إليها في فن التصوير وجدت الخط لعربي قد سبقني إليها منذ أمد بعيد ".
كما نسب للإمام علي كرم الله وجهه قوله: " الخط مخفي في تعليم الأستاذ، و قوامه على كثرة ألمشق، و دوامه على دين الإسلام ".فهو بحر واسع إلا أن معرفة أسراره وحدها دون التمرن المستمر على ألمشق لا تكفي !فماذا نحن فاعلون – حكومات و شعوب و مفكرون و مبدعون و أحزاب معارضة – للحفاظ على رمز هويتنا الحضارية و تنميتها ؟؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ردا على حقارة البورقيبيات و البورقيبيين ؟

عروس البحر بين الحقيقة و الخيال ؟!

البلاغ الذكية | ما اسم رئيس تونس القادم؟