نقد الإستبداد الشرقي
نقد الإستبداد الشرقي
عند الكواكبي و أثر التنوير فيه
محمد سالم بن عمر
محمد سالم بن عمر
Mohamedsalembenamor21@yahoo.fr
http:islam3mille.blogspot.com
86، حي الليمون ، منزل بورقيبة 7050 / ص.ب :260 ولاية بنزرت – الجمهورية التونسية الهاتف : 23038163 (00216)
محمد سالم بن عمر، كاتب و ناقد تونسي ، عضو باتحاد الكتاب التونسيين .
أصيل سيدي بوعلي ولاية سوسة، متزوج و له شيماء و نصير الله.
متحصل على شهادة الأستاذية في التنشيط الثقافي منذ 1992، وقد عمل مديرا لدور الثقافة بتونس.
له مساهمات عديدة في النقد و الإبداع و المقال الفكري\ الحضاري...
صدر له كتاب:" اللسان العربي و تحديات التخلف الحضاري في الوطن العربي الإسلامي عام 1995"
كما صدر له كتاب : " نقد الإستبداد الشرقي عند الكواكبي و أثر التنوير فيه عام 2009 "
و قد نشرت له جل الصحف و المجلات الوطنية مقالات فكرية و نقدية و قصص قصيرة وقصائد .. كما نشرت له بعض المجلات و الصحف العربية .. مقالات فكرية وحضارية..
له مخطوطات عديدة أهمها :
ذكريات زمن مضى (رواية) * نحو إعادة تشكيل الفكر العربي الإسلامي في العصر الحديث ﴿مقالات فكرية / حضارية﴾ ...
المقدمــــة
كان الإستبداد السياسي، وسيبقى داءا معطلا لحركة التقدم في المجتمعات البشرية. وقد اكتوى عبد الرحمان الكواكبي (1854/1902) وكل أمته العربية الإسلامية بمثل هذا النمط السيئ من الحكم، ولا تزال شعوب كثيرة تكتوي بهذا الداء اللعين إلى يوم الناس هذا، بل لعل فشل العرب و المسلمين في تجربة النهضة يعود أساسا إلى أنهم أهملوا القضية الأم في نهضة الشعوب والأمم وهي قضية تحرير الإنسان والرقي به بصفته شخصا ليس عليه واجبات فقط، وإنما له حقوق واعتباره الغاية والمبتغى و منطلق التغيير.
وقد رأينا أن نتوجه بالدراسة إلى فكر عبد الرحمان الكواكبي باعتبار ريادته في هذا المجال وتكريسه لجل فترات حياته مناضلا في سبيل تحرير العرب و المسلمين من إستبداد الأتراك، داعيا في حماس فياض إلى إقرار نظام "شوري ديمقراطي" للقضاء على أسباب الإنحطاط و التخلف الحضاري.
لقد شدنا إلى هذا "العالم المصلح" تركيزه الشديد في جل ما كتب على نقد الإستبداد وتبيان مساوئه على حياة الفرد والمجتمع، بل لعله الوحيد من بين رواد النهضة العربية الذي قضى جل حياته النضالية في سبيل مقاومة ظاهرة الإستبداد والتحذير من مخاطره. ولعل جل الدراسات التي تناولت فكر الكواكبي جاءت في شكل سرد تقريري لمجمل آرائه السياسية والاقتصادية والتربوية… مفتقدة في الغالب إلى التحليل المعمق، وتعقب المرامي التي هدف إليها الكواكـبي..!؟
فالفكرة المترسمة لدى جل الدارسين تقدمه في صورة المصلح الذي نقد الإستبداد التركي ونادى بخلافة عربية تحل محل الخلافة العثمانية اعتمادا على كتابين تركهما المؤلف وهما "أم القرى" و"طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد" فلم تصل إلى اعتباره ظاهرة فكرية متميزة وأغفلت الكثير من مظاهر الإبداع والطرافة وبعد النظر التي تميز بها الكواكبي... ولا ينازع احد في قيمة هذين الكتابين الذين ضمنهما الكواكبي لمجملي آرائه النقدية والإصلاحية.
وأزعم أن كتاب "الطبائع" يعد حجر الزاوية في معرفة أفكار الكواكبي التي استقر عليها رأيه بعد حياة مليئة بالنشاط والحركية في الميدان الصحفي..‘ داعيا إلى مقاومة كل مظاهر التخلف والإنحطاط الحضاري التي انتكس فيها المجتمع العربي الإسلامي آنذاك.
كما أن هذا الكتاب قد اشتمل على بعض أفكار رواد النهضة العربية أمثال الطهطاوي(1801/1873) وخير الدين التونسي (1810/1890) والأفغاني (1837/1897) وعبده (1849/1905) ورشيد رضا(1865/1935)‘بل إنه يصعب على أيّ باحث جاد عدم الوقوف عنده للتزود بما يساعده على معرفة فكر النهضة والوعي العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
غير أن قلة الدراسات الجادة التي محصت آثار الكواكبي بدأت تنحصر في السنوات الأخيرة ولاسيما بعدما أصدر محمد عمارة "الأعمال الكاملة لعبد الرحمان الكواكبي" مرفوقة بتحليل عن مجمل ما خطته يد هذا "الزعيم المصلح" في الحقل السياسي والاجتماعي والتربوي وبعض مواقفه النظرية عامة.
وهذه الدراسات على علميتها وأهميتها طغى عليها الطابع الانتقائي وغياب الروح النقدية الصارمة..! فجاء جلها يكيل المديح للكواكبي ولم تر فيه إلاّ الجوانب الإيجابية من تفكيره.
لقد بحث الكواكبي في كتابه الأول "أم القرى" في أسباب الخلل والضعف في وضع المسلمين وسبل إحيائهم، وضمن كتابه الثاني "طبائع الإستبداد" حملته القوية على الحكم المطلق. والكتابان متكاملان في أنهما يشخصان أدواء المجتمع العربي الإسلامي ويتلمسان السبيل للنهضة.
كما ترك الكواكبي مجموع أشعار، فقد قال ابنه محمد أسعد الكواكبي: إن أباه "كان يسجل ما يروقه من الشعر ويصنفه على عشرين صنفا واضعا في نهاية كل بيت شعر رقما خاصا يدل على غزل أو نسيب أو مدح أو هجاء أو رثاء الخ.."
وقال :"ولا أزال أحتفظ بكناش فيه مجموع أشعار تنوف على الثلاثة آلاف بيت مصنفة على الطراز المذكور، ومحررة بخطه المشهور الذي لا يقلد، إلاّ أنه في حياته لم يكن مكترثا لقول الشعر الذاتي حيث لم أعثر له على شيء من ذلك سوى بعض أبيات حماسية قالها عفوا حين تحريره "أم القرى" في حلب وقصيدة حررها وأرسلها من مصر إلى أخيه السيد مسعود وهي بائية صورتها محفوظة عندي .
وقد ترك الكواكبي بالإضافة إلى هذه المؤلفات كتاب :"صحائف قريش" وكتاب "العظمة لله" وقد صودرت هذه الكتب من قبل السلطات العثمانية آنذاك بعد وفاة الكواكبي مسموما بالقاهرة ولم يعثر لها على أثر حتى الآن.
ولقد تميز الكواكبي في كل ما خلف من كتب ومقالات بالتزامه الواضح بمعاداة الإستبداد على اختلاف ألوانه و تشكلاته والتشوف إلى الحرية و الإنعتاق .. مرتكزا على تأصله ورسوخه في التراث العربي الإسلامي واطلاعه الواسع على جل المدارس الفكرية الغربية وخاصة تلك التي هيأت للثورة الفرنسية عام 1789.
يستفاد من الإشارات الواردة في مؤلفات الكواكبي أنه كان مطلعا إطلاعا واسعا على التاريخ الإسلامي قديمه وحديثه متأثرا خاصة بالعلامة ابن خلدون في بعض أفكاره، وهو كثير الإستشهاد بالقرآن والأحاديث النبوية وآراء أيمة المذاهب الفقهية، بالإضافة إلى بعض معاصريه أمثال الطهطاوي وخير الدين ومراش الحلبي ومن يقرأ بعض مواقفه يلمس استفادة مؤلفنا من الترجمات الصادرة بمصر في عهد محمد علي. كما أن تأثير فلاسفة الأنوار ولاسيما "روسو" و"منتسكيو" لا يحتاج إلاّ لمجرد الإطلاع على كتابه "طبائع الإستبداد" فلقد أكثر الكواكبي من استعمال مصطلحات فلسفة القرن الثامن عشر التنويرية كمفهوم "الحق الطبيعي" و"الحرية" و"الديمقراطية" و"الإشتراكية" وغيرها وهو ما يعكس صلته الوثيقة بالفكر الغربي التنويري وعميق تأثره بالثورة الفرنسية على الرغم من أنه لم يكن يتقن لغة أجنبية ما عدى إتقانه للغة التركية واللغة العربية. ويظهر تأثره واضحا بما ورد في كتاب الأديب الإيطالي "فكتور الفياري" (1749/1803)الموسوم بعنوان "الإستبداد" : " " Dela tyrannie والذي يظهر أن الكواكبي قد اطلع عليه خلال ترجمته إلى اللغة التركية من قبل شاب تركي عام 1867. وقد استمد منه الكواكبي بعض أفكاره في نقد الإستبداد واستخرج منه إطار كتابه "طبائع الإستبداد ". كما يغلب على الظن أن كتاب "بلنط":"مستقبل الإسلام" كان له تأثير على ميولات الكواكبي القومية …!
إن القراءة التي أردنا القيام بها لفكر الكواكبي تهدف أساسا للإجابة عن سؤالين هامين هما جوهر إشكالية هذا البحث:
1. هل نجح الكواكبي - كنموذج لزعماء الإصلاح – من خلال أفكاره وآرائه النقدية والإصلاحية في صنع "نسق سياسي- فكري حضاري" صالح لتغيير المجتمع الإسلامي في العصر الحديث و النهوض به وتجديد مختلف هياكله..؟
2. وعلى افتراض استكمال الكواكبي شروط بناء هذا النسق الفكري/الحضاري، فما هو حظ هذا النسق الفكري"البديل" من النجاعة الحضارية و إحداث النهضة؟ و ما قيمته الذاتية باعتبار أن للكواكبي فكرا نقديا إصلاحيا للواقع العثماني المتدهور في عصره وتصورا لمجتمع إسلامي في الوقت نفسه؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تسهل علينا كشف النقاب عن الدور الذي اضطلع به مؤلفنا بوصفه من النخبة المفكرة في العصر الحديث التي مارست الزعامة الفكرية وادعت لنفسها القدرة العقلية والفكرية التامة على حسم المشكل الفكري والحضاري المتمثل في طريقة التوفيق بين مقومات الثقافة العربية الإسلامية القديمة.. وركائز الثقافة التنويرية الأوروبية الغازية ..‘ التي فرضت على المسلمين منذ أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر. وهذا العمل سيسمح لنا بإدراك ما إذا توصل الكواكبي إلى حسم هذا المشكل بفضل ابتكاره لنسق سياسي فكري إصلاحي أم لا؟
ولقد حاولنا في دراستنا أن نقيم حوارا مباشرا بين الأثر والدارس بغية وصف وفهم المحتوى الظاهري والمتخفي، الصريح والكامن للمادة المكتوبة محاولين في ذلك إرجاع الأثر المكتوب إلى الخلفية الفكرية أو الثقافية أو السياسية التي ينبع منها هذا الأثر. وقد عمدنا قدر الطاقة إلى جمع المادة التي تخص موضوع بحثنا من كتابي "أم القرى" و"طبائع الإستبداد" وبوبناها ثم قمنا بتحليلها بصورة حرصنا أن تكون متكاملة.
الباب الأول
تمهيد تاريخي:
1- النهضة العربية والوعي السياسي- الحضاري:
يظهر أن حملة بونابرت على مصر عام 1798م مثلت نقطة البداية لمحاولة النهوض في البلاد العربية الإسلامية، فقد مثلت الحملة شجة قوية في الوعي السكوني العربي، وبالتالي لم تأت اليقظة العربية إستجابة لحاجات أو تفاعلات داخلية وإنما كانت استجابة "للتحدي الذي فرضه الغرب على كل مستويات الإجتماعي، السياسي الإقتصادي والنفسي"
ولقد جاءت صيحة الشيخ حسن العطار تعبيرا صادقا عن ذلك، فقد قال بعدما اقترب من علماء الحملة الفرنسية وأبصر ما لديهم من علوم:"إن بلادنا لا بد أن تتغير ويتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها" . ومنذ ذلك الحين بدأ العرب يتحسسون مكمن الداء ويشعرون بالهوة الحضارية التي أضحت تفصل بين ديار الإسلام والغرب.. فنشأ التفكير في هذا الإقليم أو ذاك بضرورة إصلاح ما فسد.. وترتيب ما تبعثر.. وبحث ما اندثر حتى تستعيد ديار الإسلام قوتها ونهضتها و استقلالها، وغدا البحث متركزًا في إشكالية التغيير الواجب إدخاله على نمط الحياة السياسية والفكرية والإجتماعية.
إن هذه المفارقة كانت قد تأسست على منهج مقارن يستحضر ثلاث أقطاب رئيسية وهي: "آن الأنا" الذي أصبح يعيش في ظلمات الجهل والإنحطاط.! ومقارنته "بماضي الأنا" المجيد..!؟ ثم "آن الأنا "و"آن الآخر" المتمثل أساسا في الغرب المتقدم.
ولقد تجسدت فكرة الإصلاح في جيل أول، كان أبرز من مثله رفاعة رافع بدوي الطهطاوي (1801-1873) وخير الدين التونسي (1810-1890).
كانت لرحلة زعماء هذا الجيل إلى الغرب واطلاعه المباشر على ثقافته وحضارته دور كبير في تحديد الحلول التي تقدم بها هذا الجيل للخروج من وهدة الإنحطاط و التخلف الحضاري.
أ- نقد حكم الإطلاق لدى رواد "النهضة العربية":
ولقد انصب اهتمام هذا الجيل على نقل واقتباس ما تفتقت عنه الذهنية الأوروبية في أصول الحكم والسياسية والعلوم والتقنيات الحديثة، فترجموا بعض الدساتير الغربية وخاصة دستور الثورة الفرنسية وما تنص عليه من حرية ومساواة مثلما فعل الطهطاوي في "تخليص الإبريز" وخير الدين التونسي في "أقوام المسالك" انطلاقا من إيمان هذا الجيل بضرورة إجراء تنظيمات سياسية واجتماعية تناسب التنظيمات التي نهض على أساسها الغرب، وأولى هذه التنظيمات القضاء على حكم الإطلاق وتغييره بنظام دستوري. ونشر العلم والحرية، ووجد هذا الجيل نفسه مجبرا على إعادة تأويل التراث الإسلامي بما يتيح إفساح المجال أمام دخول هذه التجديدات الحضارية المادية والعقلية.
إن هذا الجيل كان قد نقد الإستبداد السياسي بسبب طغيان "الجانب القمعي والإستبدادي في سياسة عبد الحميد" ولكن وحدة الخلافة ووقوفها في وجه الإستعمار الغربي شكل هاجسا أكثر أهمية في برامجهم، كما أن فكرة "حاكم غشوم خير من فتنة تدوم" كانت لا تزال تسيطر على الأذهان.! وهذا ما جعلهم لا يحملون حملة قوية على الإستبداد العثماني ما دامت جل الولايات العربية لا تزال بمنأى عن الإستعمار الغربي..بالإضافة إلى أن فكرة "الجامعة الإسلامية" و"الوحدة الإسلامية" كان لها تأثيرها القوي في الأذهان..! فالخلافة "تجسد السلطة الزمانية كلها وهي مصدر الشرعية في المجتمع والدولة".
ب- النهضة وبروز التيار السلفي:
تتراجع الرابطة الإسلامية كشكل من أشكال ضمانات البناء السياسي القائم وتحصينه، أمام ضربات الإستعمار الغربي الموجعة وتقطيعه لأجزاء عديدة من الخلافة العثمانية وسقوط البلاد العربية الواحدة تلو الأخرى في براثن الإستعمار الغربي المباشر بدءا بالجزائر عام 1830 وتونس عام 1881 ومصر1882.. بالإضافة إلى اشتداد السياسة الإستبدادية التي سلكها السلاطين العثمانيون المتأخرون، كل هذه العوامل بدأت توقظ شعور العرب التدريجي بكيانهم الذاتي. وتبدأ الدعوات القومية في السفور بعد أن ظلت لمدة طويلة مختفية تحت لبوس العالمية الإسلامية أحيانا أو العروبة الخجلة أطوارا أخرى.إن معالجة البناء السياسي داخل فكر النهضة إن بدت في أول الأمر متجانسة فإنها ومع دخول أوروبا الإستعمارية وبداية تدميرها للخلافة العثمانية وتقطيعها للولايات العربية.. هذه المعالجة سترى العديد من التوجهات والرؤى تبشر بنهضة المجتمع و"عصر تنوير" يقتبس الضوء من الغرب تمد الجسور مع منبع "التقدم والعقل والحرية". ويبدو أن تيارا فكريا بدأ يظهر على السطح حينئذ كان قد بثه جمال الدين الأفغاني (1839-1879) وجمع من تلاميذه في الشرق الإسلامي في العصر الحديث وقد مثل حركة إسلامية هامة.ولعلّ أبرز من مثل هذا التيار محمد عبده (1849-1905) والكواكبي 1854-1902) موضوع دراستنا، ورشيد رضا اللبناني الأصل (1865-1935).. كانت هذه الحركة سلفية لأنها قامت على إعادة تأكيد حقائق الإسلام الجوهرية، وكانت إصلاحية لأنها استهدفت إحياء ما كانت تعتبره العناصر المهملة في التراث الإسلامي، غير أن عملية هذا الإحياء قد تمت – وهذا مهم جدا– تحت تأثير الفكر الليبرالي الأوروبي..! فأدت تدريجيا إلى تأويل جديد للإسلام والمفاهيم الإسلامية بغية جعلها معادلة للمبادئ الموجهة للفكر الأوروبي في ذلك الحين.!
الباب الثاني
I -النزعة النقدية لدى الكواكبي:
1-الكواكبي ونقد الإستبداد:
أ- مفهوم الإستبداد:
يستعمل الكواكبي مصطلح " الإستبداد " مرادفا لعبارة الحكم المطلق الجائر، مقابلا إياه ب"الحكم العادل" و"الحكومة الحرة المنتظمة"، مع العلم أن الإستبداد لا يطابق في اللغة معنى الظلم، فالإستبداد في اللغة هو " الإبتعاد والإنفراد" وهو هنا الإنفراد بالرأي والحكم.
يدلل الكواكبي عن مرجعيته الإسلامية في تعريف الإستبداد ، فهو حين يقرر أن المستبد يحيد عن الفطرة التي خلق عليها "فيرى نفسه كان إنسانا فصار إلاها". لا شك انه كان يستحضر قصة فرعون الواردة في القرآن والتي ادعى فيها الربوبية قائلا لبني إسرائيل : ﴿ ما علمت لكم من إله غيري﴾.
إن فكرة ادعاء الألوهية من قبل المستبد كفيلة _ حسب الكواكبي _ بأن ترشحه إلى الظلم والجبروت وإتباع هوى النفس في إدارة شؤون المجتمع حتى يغدو هواه قانون المجتمع وشريعته، ويهيمن على جميع السلطات في إدارة الحكم، وبالمقابل تعيش الأمة الواقعة تحت الإستبداد مستعبدة ذليلة ليس لها في شؤونها حل ولا عقد، وإنما هي خاضعة لحاكم مطلق، إرادته قانون، ومشيئته نظام يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد.!
كما يلفت انتباهنا في هذا التعريف لمفهوم الإستبداد طغيان بعض المصطلحات الواردة في كتاب "الفياري" الذي كنا قد أشرنا إليه سابقا.. فقد عرّف هذا الكاتب الطغاة قائلا:"كل الذين توسلوا بالقوة أو الحيلة..إلى القبض التام على أطراف الحكم ويعتقدون أنهم فوق القانون، أو هم كذلك.."
لا يتكلم الكواكبي عن أمور خيالية بل ينطلق في وصفه للحكم الإستبدادي المطلق من معاينته الشخصية لحكومة عبد الحميد ذلك الطاغية الجبار، فقد "فرض على رعيته حكما فرديا قاسيا ازدادت حدته يوما بعد يوم واستهدف كافة طوائفها من عرب ويونان وأرمن وغيرهم".
كما يدلل الكواكبي في "طبائع الإستبداد" على تمكنه واستيعابه للفكر السياسي الذي مهد للثورة الفرنسية عام (1789) كنظرية التعاقد الاجتماعي لدى "لوك" وروسو" وأصناف الأنظمة السياسية وخصائصها كما جاء في كتاب "روح الشرائع" "لمنتسكيو"... فهو قد شدد على ضرورة تقيد الحكومة العادلة بالقوانين التي يشترك الشعب في وضعها عن طريق ممثليه، وتبعا لذلك يرى أن " الإستبداد" هو صفة للحكومة التي يرأسها مستبد ولا توجد بينها وبين الأمة رابطة معينة معلومة مصونة بقانون نافذ الحكم". فلم يعد هناك مجال لأن يدعي إنسان أنه يحكم باسم الله فلا حاجة له بقوانين يتواطأ عليها البشر، بل أصبح إيجاد قانون يرضى عنه الجميع لتسيير دواليب الدولة أمرا مفروغا منه كي لا تسقط الحكومة في مستنقع الإستبداد الآسن؛ و بناء على ذلك تصبح اشد أنواع الحكومات إستبدادا واستهتارا بحق الفرد و المجموعة هي "حكومة الفرد المطلق ‘الوارث للعرش؛القائد للجيش؛الحائز على سلطة دينية "كما هو شأن الأتراك العثمانيين و على رأسهم السلطان عبد الحميد.
ثم يبحث الكواكبي عن فلسفة يقوم عليها الحكم الإستبدادي الجائر.. فيجد أن هذه الفلسفة ترتكز بالأساس على نظرية احتقارية للإنسان وتقييم سلبي له واتخاذه وسيلة لا غاية في حدّ ذاته. بالإضافة إلى اعتباره قاصرا و عاجزا عن المساهمة في إدارة شؤونه بنفسه..! لقد عبر عن ذلك تعبيرا صريحا توفيق باشا خديوي مصر في حواره مع الأفغاني ؛ فقد قال ما معناه :"إنني أحب كل خير للمصريين؛ و يسرني أن أرى بلادي في أعلى درجات الرقي و الفلاح ؛ و لكن مع الأسف إن أكثر الشعب خامل لا يصلح أن يلقى عليه ما تلقونه من الدروس المهيجة...
إن كل من يقرأ "طبائع الإستبداد" يلفت انتباهه منذ أول وهلة نقمة الكواكبي الشديدة على الإستبداد ومحاربته لجميع مظاهره في أيّ موقف كان، واعتباره مصدر كافة الشرور والأوبئة التي تصيب المجتمعات البشرية، مفسرا لثنائية التقدم /التأخر طبقا لطبيعة المؤسسة السياسية، لأن الجهاز السياسي في اعتباره هو التشخيص المؤسسي لحالة المجتمع وبالتالي فهو التعبيرة الصادقة للواقع وتشكل من تشكلاته، فإذا ما كان المجتمع يشكو من الضعف والإنحطاط و التخلف..‘ فلا شك أن هناك خللا في الجهاز السياسي، وهذا الخلل يتمثل في الإستبداد والإنفراد بالحكم..! لقد تميز أسلوب الكواكبي بالحماس الفياض والصدق والوضوح والدّقة المتناهية رغم صعوبة الظرف الذي كتب فيه مؤلف "الطبائع" وقد قلب موضوعه عن ظهر بطن رغم وعورته، ولا يدانيه في عداء الإستبداد، أحد سوى الكاتب الإيطالي "فكتور الفياري" الذي كان يمجد الحرية باعتبارها أشرف من الحياة واعدا بأن روحه الحرة "لن تجد سلاما أو راحة" حتى يكتب صفحات "قاسية لهدم الطغاة" وقد قال في معرض حديثه عن الإستبداد:"لا، ولن يكون نصيب كلامي أن تبدده الرياح إذا ولد رجال صادقون بعدنا يؤمنون بأن الحرية لا غنى عنها للحياة". وعلى غراره كتب الكواكبي يقول في بداية كتابه "الطبائع" :"كلمات حق وصيحة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح قد تذهب غدا بالأوتاد".. صحيح أن جلّ المصلحين من جيل الكواكبي كانوا قد انتقدوا الطغيان و الإستبداد ولكنهم لم يكونوا بمثل وضوح الكواكبي في حملته العنيفة ضدّ كل مظهر يشتم منه رائحة الإستبداد ، بالإضافة إلى أنه لم يهادن الإستبداد يوما واحدا كما فعل الأفغاني أو رشيد رضا. فالأفغاني مثلا لا ينكر أن الحاكم المستبد، يستطيع إذا حسنت نواياه، أن يحقق الكثير من الخير بسرعة، لكن خطر الحكم الإستبدادي في رأيه يتوقف على أخلاق الحاكم، يقول الأفغاني في هذا الصدد:"إن كان حاكم الأمة عالما حازما أصيل الرأي... ساس الأمة بسياسة العدل، ورفع فيها منار العلم.. وإن كان حاكمها جاهلا سيء الطبع.. أسقط الأمة بتصرفه إلى مهاوي الخسران" . أما رشيد رضا تلميذ الأفغاني فقد بقي مهادنا لحكم عبد الحميد بل ومدافعا عن سياسته، داعيا أن يكون الإصلاح من قبل "السلطان كخليفة وفق مشورة مجلس علماء" . ولم ينقلب رشيد رضا على سياسة عبد الحميد الظالمة إلاّ بعد خلعه عام 1908 من قبل "جمعية الاتحاد والترقي" _ يقول رشيد رضا :" فهذا عبد الحميد قد خان، وأعوانه قد بغوا في الأرض وتركوا السنة والفرض وعطلوا الشريعة والقوانين واستبدوا لجميع العثمانيين وجمعوا القناطير المقنطرة من المال.. فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب" وقال محمد عبده- لرشيد رضا في عام 1897 مبرزا موقفه من الأتراك:"إن العرب إذا حاولوا الإنفصال عن السلطنة، فمن الممكن أن تتدخل أوروبا وتخضعهم وتخضع الأتراك معهم، فالسلطة العثمانية كانت، مع كل نقائصها الشيء الوحيد الباقي من استقلال الأمة السياسي، فإذا اضمحلت، خسر المسلمون كل شيء وغدوا بلا قوة كاليهود". .. أردنا من عرض هذه الآراء لبعض معاصري الكواكبي أن نثبت حقيقة: وهي أن الكواكبي لم يكن ينقد الإستبداد التركي قصد إصلاح السلاطين العثمانيين وإرجاعهم إلى جادة الصواب، ولم تكن تهمه وحدة الخلافة العثمانية بقدر ما كان يهمه خير العرب ودفعهم نحو التقدم الحضاري وتجنيبهم ويلات الإستعمار الغربي الذي أخذ يبسط كلاكله على البلاد العربية ويمهد لاستغلالها سياسيا واقتصاديا، فهو لا يكل عن تبيان أن الأتراك هم بناة مملكة سياسية على أنقاض سلطة العرب باسم الدين..! فقد سبق لبعض سلاطينهم مثل السلطان سليم الفاتح (1512-1520) قتل آلاف العرب في المشرق بينما كان الأسبان يذبحونهم في المغرب ليخلص الملك إليه وإلى ذريته دونهم..! لقد كان الشغل الشاغل لدعاة الحركة السلفية الحفاظ على وحدة الخلافة حتى تستطيع مواجهة الإستعمار الغربي، ففكرة الوحدة الإسلامية أو "الجامعة الإسلامية" كانت طموح البناء السياسي، ومن بداية اليقظة العربية، أما الكواكبي فقد أدرك منذ البداية طوباوية هذه الفكرة في زمن أصبح فيه الغرب يملك كافة وسائل القوة والسيطرة، كما أدرك أن حالة التشتت التي صارت إليها ديار الإسلام لا يمكن تجاوزها بخطاب حالـم ينظر للعالمـية الإسلامية كما كان يفعل الأفغاني وعبده..! فأراد انطلاقا من هذه القناعة أن ينقذ ما يمكن إنقاذه، والإنقاذ لا يتأتى إلا بانفصال العرب عن الأتراك، وسحب الشرعية الإسلامية عنهم في امتلاك أمور المسلمين، فالعرب أصبحوا يمثلون القوة "البديلة الوحيدة" القادرة على تعويض القوة العثمانية التي هي في طريق الأفول والإضمحلال. فعن طريقهم يأتي الإحياء ووحدة الدين. ويعتقد الكواكبي أن العرب من طبيعتهم التأقلم مع المدنية الجديدة، والتاريخ يشهد_ حسب رأيه _ على كفاءة العرب إذا ما هم أمسكوا بدواليب الحكم وكونوا لهم خلافة على طراز حكومة النبي العربي وخلفائه الراشدين. إن هذه الفكرة القائلة بأن آل عثمان ليسوا خلفاء شرعيين وأن الخلافة من حق العرب، فيجب أن تعود إليهم كانت تمثل أولى مظاهر الفكرة القومية عند العرب المسلمين. ولعل هذه الرغبة في الإنفصال عن الأتراك كانت تلتقي مع رغبة الإستعمار الغربي في القضاء على الخلافة الإسلامية التي كانت تمثل لهم عقبة أمام ابتلاع كافة البلاد العربية. وهو ما تم لهم فعلا ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين.
ب) أسباب الإستبداد:
-1الخوف:
سبق وبينا كيف أن الكواكبي يرى في الإستبداد انحرافًا بالطبيعة البشرية و الفطرة الإنسانية عن مسارها الصحيح، لأن فيه ادعاء للربوبية من قبل الإنسان واستعلاء في الأرض بغير حق، يقابله خضوع الرعية واستسلامها للظلم والتعسف الواقع عليها من قبل المستبد، فهو يعني في نهاية المطاف سلب الذات لدى العبد/ الرعية، وسلب الغير لدى المستبد، فما سبب كل ذلك؟ يجيب الكواكبي: إنه الخوف فهو السبب المباشر والركيزة التي يعتمدها الإستبداد في أي مجتمع من المجتمعات البشرية التي ترتكس تبعا لذلك في مستنقع التخلف الحضاري والإنحطاط المدني. لعل الكواكبي قد استلهم كتابات بعض المتنورين الغربيين في هذا المجال أيضا: فقد سبق "لمنتسكيو" (1748-1803) وهو بصدد استعراض أنواع الحكومات أن قال : إن الفضيلة روح الديمقراطية والأنفة روح الملكية والخوف روح الإستبداد. أما "الفياري" فكان أكثر وضوحا حين قال بعد تحليل معمق لظاهرة الإستبداد:"...من هنا، يتبين لنا أن الخوف حقيقة هو ، الركيزة، والسبب والوسيلة لكل أنواع الإستبداد..: « De la, il prouve que la peur est véritablement, la base, la cause et le moyen de toute tyrannie ».."
إن الخوف في حقيقته مظهر من مظاهر غريزة حب البقاء لدى الإنسان، فكلما تعرض هذا الأخير إلى خطر من شأنه أن يهدد حياته أو يعرضها لسوء أو مضرة إلاّ وغشيه الخوف وانتابته وساوس الرهبة، فالخوف في أصله شيء فطري، إلاّ أنه يتحول في ظل الإستبداد السياسي إلى عقدة ومرض لا ينجو منه إلا القليلون.. لقد عبر الكواكبي بذلك عن الجو الإرهابي الذي كان يحياه المسلمون تحت سلطة آل عثمان، بل لعله كان يصف في حقيقة الأمر تجربته الشخصية وهو الذي قضى معظم حياته مطاردا من قبل السلطات العثمانية.
يحرص المستبد وأعوانه على نشر الرعب والخوف بين أفراد الرعية لأنّهم يعلمون يقينا أن الخوف إذا ما استبد بالنفوس يجعل قابليتها للاستسلام مؤكدة، وسيرها في ركب الإستبداد محتمة.
لقد أبدع الكواكبي إبداعا ظاهرا في وصف الإستبداد ونفسية المستبدين ممهدا بذلك للمدارس السيكولوجية الحديثة.. فهو يرى أن الخوف إذا انتشر بين الناس يولد فيهم الغباوة التي "تملأ القلوب رعبا من لاشيء و تفعم الرؤوس تشويشا وسخافة وفساد الرأي وضياع الحزم وفقد الثقة بالنفس وترك الإرادة للغير".
وهكذا تصبح نفسية المستبد نفسية محطمة، فيسهل انقياده وينحط إدراكه، تعوزه الفكرة وينقصه الحزم والإقدام، ويعيش مرتبكا مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، تضيق عليه الدنيا على سعتها، فيصبح كأنما يصعد في السماء، فيتشبث بكل عتيق، ويقلد في كل فكر وعمل، ويفقد المقدرة على التفاعل البناء مع المجتمع الذي يعيش فيه، فيتقوقع على ذاته، ويصبح إنسانا هروبيا من واقعه الحياتي، مستكينا.. فيعجز ضرورة عن مواجهة مشكلات الحياة ومتطلباتها المختلفة، ويتيه في طريق جارفة من الأوهام والسخافات التي تحد من حيويته وتقف في طريق نشاطه كالصخرة الصلدة التي تعطل أهدافه في الحياة، وتختلط عليه السبل وتدلهم الخطوب، فلا يعرف ماذا يريد، أو لماذا يحيى. وإذا عمل فيكون عمله بدون نشاط ولا اتفاق "فيفشل حتما" فيغضب على ما يسميه حظا أو طالعا أو قدرا "ويصبح يسلي نفسه بالسعادة الأخروية" بعدما فشل في نيل حظه من الدنيا ولعل هذا ما ذهب إليه ماركس حين قال " الدين أفيون الشعوب"(أكيد أن ماركس يقصد مفاهيم الدين التي يكرسها رجال السلاطين المستبدين ) وهو ما يدل على أن الكواكبي كان مطلعا على المدرسة الماركسية التي كانت تشن آنذاك حربا ضروسا على كل ما من شأنه أن يصرف الإنسان عن نيل حقه المغتصب من قبل الرأسماليين و المستكبرين في الأرض ولو كان ذلك باسم الدين أو صكوك الغفران الكنسية..! فماذا يحدث لنا أو بماذا نصاب لو فحصنا واقعنا الحضاري/ السياسي اليوم على ضوء هذا التحليل المعمق لنفسية الواقعين تحت هيمنة الإستبداد السياسي !!؟
ثم يضيف كاتبنا عنصرا آخر هاما ورئيسيا قلما ينتبه إليه الدارس للإستبداد والمتمثل في كون المستبد وأعوانه يعانون هم بدورهم من عقدة الخوف التي تبسط نفوذها على كافة أفراد المجتمع..! فتصبح العلاقة التي تربط الحاكم بالمحكوم علاقة حذر وخشية، علاقة توتر وقلق، لكن تختلف أسباب الخوف لدى الطرفين، إذ تخشى الرعية.. المستبد خوفا من مكره وجبروته وظلمه، أما المستبد فيخشى الرعية لأنه يعلم أنه خائن مغتصب، وأنه لم يحفظ الأمانة التي أوكلت إليه أو اغتصبها غصبا، ولم يقم بين الناس بالعدل والقسطاس المستقيم – مطمح كل النفوس السوية -... بل احتكر السلطة واستولى على خيرات البلاد، وأطلق أيدي أعوانه في النهب والسرقة وترويع الناس وتكميم الأفواه، وإذلال الضعفاء وتعذيبهم وتقتيلهم بغير حساب، وإهلاك الحرث والنسل...! وهكذا يتميز خوف المستبد عن خوف الرعية في أسبابه وجذوره لأن خوفه ينشأ عن علم "من انتقام بحق" أما خوفهم فهو نتيجة الجهل و"توهم التخاذل".
فهل كان الكواكبي يلمح بذلك إلى المجازر الرهيبة التي أقامها السلطان عبد الحميد لأعداء إستبداده؟؟!
لا شك أن للواقع التاريخي دخل كبير في الصور التي قدمها الكواكبي لكنه يبقى مفتقدا للدلالة الملموسة المقنعة، وهو أسلوب عودنا عليه الكواكبي على أية حال.
وهكذا لو بحثنا عن عقيدة لمجتمع الإستبداد لقلنا دون تردد إنه الخوف، فعم ينشأ الخوف؟
2- الجهـل:
لم يتوقف تساؤل الكواكبي عن السبب المباشر للإستبداد فقط، بل أراد أن يغوص أكثر في الموضوع ويعرف سببا مقنعا للخوف الناشئ عنه الإستبداد، لأنه يؤمن أن لكل علة معلولا وأن الكون يخضع لقوانين ونواميس محددة و ثابتة، فلكل العوالم قوانينها المخصوصة" فكما للعالم المادي قوانينه فإن للإنسان و الحيوان قوانينهما أيضا فليس " في الكون شيء غير تابع للنظام حتى فلتات الطبيعة والصدف..: هي مسببات لأسباب نادرة".
يجيب الكواكبي إجابة قاطعة حاسمة شان المعلم في دغمائيته أن الخوف "ناشئ عن الجهل" دون شك، فلولا الجهل لما استبد بالإنسان الخوف وبالتالي لما كان هناك إستبداد مطلقا.
إن الجهل بحقائق الموجودات يجعلها تتضخم في ذهن الإنسان فتبسط سلطانها عليه و تكتسب حجما اكبر بكثير من حجمها الحقيقي..! : لم يعبد الإنسان البدائي الشمس والقمر و النجوم.. وبعض أنواع الحيوانات.. إلا لأنه يجهل تركيبة هذه العوالم والكائنات وحقيقتها، فلو عرفها حق المعرفة فهل كان سيعبدها أو يقدسها أو يقدم لها القرابين؟!
وكذلك الإنسان الذي يعيش في ظل الإستبداد، لو كان متنورا بالعلم والمعرفة، لما خاف المستبد وأعوانه فالخوف الناشئ عن الجهل هو الذي مكن الإستبداد من رقاب الناس وحمى دولة الظالمين من الإنقراض.
لا يشك أحد في كون الكواكبي كان مستحضرا فلسفة الأنوار وهو يقرر هذه الآراء، فلقد حاصر الفرنسيون الذين فعلت المعرفة التنويرية فعلها فيهم وغيرت فكرهم ونظرتهم للكون والإنسان والمجتمع- حاصروا- في 14 جويلية1788 حصن "الباستيل" رمز الطغيان والجبروت، وتسلقوا أسواره العالية وسط دوي المدافع وفي جو حماسي فياض، وقتلوا من كانوا يحرسونه، وبفضل هذه الثورة تحولت فرنسا من عهد الإقطاع والإستبداد واستفراد أقلية بالثروة الوطنية إلى عهد الحرية والمدنية الحديثة، فانتصارات أوروبا إنما تحققت بفضل المعرفة وتطبيقها الصحيح وأن ضعف الدولة الإسلامية سببه راجع إلى الجهل والإستبداد.."رأس كل شرّ" حسب تعبير الكواكبي.
إن نشر العلم والتحرر العقلي و الفكري من شانه أن يقضي على الإنحطاط واحتقار رجال العلم وتسليم أمور الدين إلى الجهلة والمنافقين و المتاجرين بالدين!؟.
لقد أدرك الكواكبي كما أدرك معاصروه من"الرواد المصلحين" كيف أصبح العقل و التحرر الفكري هو جوهر الحضارة الإنسانية وأن عليه يتوقف" تجديد الدين" والسير قدما بالمعرفة الإنسانية لتحقيق النهضة والرقي.
ألم يقل جمال الدين الأفغاني :"إن جهل الشرقيين أدى إلى انحطاطهم بقدر ما أن العلم ساعد الغربيين على السيطرة عليهم، وما كان بقدرة الغرب أن يقوم بالفتوحات التي قام بها بدون معارفه.."
ومن قبله أشاد فرنسيس بن فتح الله مراش (1836-1873) - وهو من مدينة حلب التي ولد بها الكواكبي- بدور العلم في توعية الشعوب ورفضها الظلم والإستبداد، فبفضل طلاب العلم ضاء عالم العقل وتمزقت سجون الظلام وانقلبت ممالك الأباطيل وتشيدت عروش الحقائق والهدى وانحطت العبودية في حضيض العدم وارتفعت الحرية على أوج الوجود...
لقد طبعت المبالغة في تقدير دور العلم و دوره الحاسم في القضاء على الإستبداد والإنحطاط وتحقيق التقدم، فكر تلك الحقبة كله بطابعها. حتى كتب صلاح الدين ألقاسمي قائلا:" إن زعماء الإصلاح اليوم احد رجلين، رجل لا يألو جهدا في الدعوة إلى العلم لاعتقاده أن الأمم لا تستتب لها عوامل النهوض ولا يمكن أن تقوى في معترك الحياة بإزاء الأمم المتقدمة وقوى مدنيتها الحاضرة، إلا إذا عم بين طبقاتها العلم... ورجل لا يفتر عن جذب أفئدة الأمم إلى الميل إلى العلوم الإجتماعية وأخذ النفوس البشرية بأهدابها".
على ضوء فكر النهضة يقرر الكواكبي أن الرعية التي تتخبط في ظلام الجهل هي التي يقع عليها الضغط والإعتساف والإستعمار، فتستعبد وينكل بأفرادها. وتنتهب خيراتها، ويخرب حرثها ونسلها، لأنها وهي تعيش في كلاكل الجهل والعمى تفتقد أية حصانة ضد الإستعباد والإستغلال، فتتحمل الإساءات من المستبد وزبانيته بذلة واستسلام.! لهذا تخيف فكرة تنور الرعية بالعلم.. المستبد وتملأ كيانه فرقا وخشية : " فليس من غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم" "بل يسعى جهده في إضعاف نور العلم ومحاربة رجالاته "لأنه سلطان" أقوى من سلطانه.
وهكذا يصبح كتاب "الطبائع" في قسم كبير منه بمثابة "السيرة الذاتية" لحياة الكواكبي المليئة بالصراع ضد الإستبداد العثماني، بالإضافة إلى كونه صدى لجل المدارس الفكرية التي عاصرته، وقد اضطر فيه الكواكبي _ في غالب الأحيان _ إلى أن يسلك نهج الإطلاق والغموض تحسبا من اضطهاد العثمانيين، فكان يطيل الإستشهاد من التاريخ الأوروبي وهو يقصد تسليط الأضواء على مظالم عاصرها بل وكان من ضحاياها.!
ثم يحدد الكواكبي مفهوم العلم مبرزا دوره في محاصرة الظلم بكلمات بليغة فيقول: 'العلم قبسة من نور الله، وقد خلق الله النور كشافا مبصرا، ولادا للحرارة والقوة، وجعل العلم مثله وضاحا للخير فاضحا للشر، يولد في النفوس حرارة، وفي الرؤوس شهامة."
إن العلماء بما وهبهم الله من حكمة وسداد في الرأي وسلطة على قلوب الناس وعقولهم، يصبحون أقدر الناس على إرهاب المستبد وتنغيص حياته.. لذلك فهو يكرههم.. ويكيد لهم‘ و يسعى جاهدا لأن يشوه سمعتهم حتى يجد مبررا للرمي بهم في غياهب السجون..! و إن كان لا يعدم وسيلة لنفيهم و التنكيل بهم..! ولقد جاء في الأثر:"إن العلماء ورثة الأنبياء".. فحيازة الفضل والتكرمة في هذا الإرث النبوي، إنما هو منوط بتقفي سيرة الأنبياء في الجهاد الدائب لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، والتأسي بهم في العمل على إشاعة العدل ومطاردة الظلم، والجري على سننهم القويم في تحقيق الكرامة الإنسانية، رفعا للجهل، وتحريرا من العبودية لغير الله، وهذا ما يخيف المستبدين من العلماء ويجعل أفئدتهم هواء ترتجف من صولة العلم، "كأن أجسامهم من بارود والعلم نار".
قد يسمح المستبد بوجود بعض أنواع العلوم التي لا تهدد إستبداده في شيء، بل هناك علوم يسعى المستبد نفسه إلى نشرها وتشجيع أهلها وتقريبهم وحتى مكافأتهم مثل "علوم اللغة والعلوم الدينية المتعلقة بالمعاد"..، فمثل هذه العلوم إذا أولت وحرفت وهو ما يقوم به عادة "العلماء المتعممون"(علماء السوء)، من رجال المستبد، فإنها لا تقرب من الواقع شيئا، وتقدم المفاهيم المغلوطة التي تكرس واقع الإستبداد وتديمه وتصوره على أنه " قضاء من السماء فلا مرد له بغير الصبر والرضا "!؟. أما العلوم التي تساعد على النهضة والتحرر، وتنير العقول، وتجعل الفرد محيطا إحاطة شاملة، بمشكلات واقعه، وتساعده على تفهم قواعد الإصلاح وأسسه، وتعرفه بحقوقه وبكيفية المطالبة بها، وتملأ النفس عزة وشموخا وبعبارة الكواكبي تلك العلوم التي "تمزق غيوم الأوهام التي تمطر المخاوف" فترتعد فرائص المستبد منها ويجند لها كل الوسائل كي لا ترى النور ولا تسمع بها رعيته أبدا إلا بصورة مشوهة أو منقوصة.
فإدارة المستبد "تسعى جهدها في إطفاء نور العلم" وتفريغه من محتواه والتنكيل برجالاته، وإلهاء الناس بتوافه الأمور.
لقد نجحت الإدارة التركية التي يحاربها الكواكبي آنذاك في تحقيق هذا الغرض، وهو ما أقلق الكواكبي وأقض مضجعه، فقد أجمعت جل المصادر التاريخية التي وصفت تلك الحقبة الزمنية التي عاش فيها الكواكبي على أن درجة التخلف والإنحطاط والجهل قد بلغت النهايات القصوى، ولم يعد هناك علماء ومفكرون إلاّ قليلون، وقلّت الرغبة في البحث والتنقيب عن الحقائق، لأن الدولة لا تشجعها، فليس إلاّ ترديد لبعض الكتب الفقهية والنحوية والصرفية ونحوها، وقد زار السائح الفرنسي "ميسيو فولني": « Volney » مصر وبلاد المشرق العربي، وخاصة الشام .. ثم كتب رحلته وضمنها وصفا للحالة الفكرية والعلمية في هذه البلاد فقال:"إن الجهل في هذه البلاد عام.. شامل، مثلها في ذلك مثل سائر البلاد التركية، يشمل الجهل كل طبقاتها، ويتجلى في كل جوانبها الثقافية، من أدب وعلم وفن..."
كما سادت الخرافات، وانتشرت الأوهام وأصبح التصوف ألعابا بهلوانية.. بسبب استعلاء الدراويش وسيطرتهم على حياة الناس، مما أضعف من قوة الجوانب العقلية في عالم الفكر، ذلك لأن الفلسفة التي غرستها الفرق الصوفية في أعماق القلوب والعقل كانت سلبية جبرية تدفع إلى الزهد والإنقطاع، والإنصراف عن العمل والبناء وقوامها الترغيب في الفقر والمسكنة..!!
والحاصل أن السر كل السر في بقاء الإستبداد وتمكنه من النفوس، هو الخوف نتيجة الجهل، وبمجرد انتشار المعرفة الصحيحة بين الأفراد والجماعات.. تتمزق غيوم الخوف وتنقرض دولة الإستبداد بانقراضه.
II – أثر الإستبداد على الفرد والمجتمع:
1-إنحراف الغرائز:
أكد لنا الكواكبي إلى حدّ الآن أن الإستبداد يبسط نفوذه المقيت على النفوس فيملؤها خوفا ورهبة، ويهيمن على العقول فتغشيها الضلالات والجهالات حتى تمسي في ظلمة حالكة مدلهمة..‘وسنحاول فيما يلي ترصد أثر كل ذلك على الفرد و المجتمع.
تتولد عن ظاهرة الإستبداد أمراض عديدة و مدمرة، وهي على كثرتها شديدة الفتك بالفرد و بالمجتمع عميقة الأثر في انحطاطه، والسير به نحو الضعف والتهلهل، مما يجعله في نهاية المطاف مرشحا للوقوع في براثن الإستعمار الخارجي خضوعا لسنن الكون و الإنسان والحياة.
فعندما تنتشر العلاقات الإستبدادية الظالمة في المجتمع وتمنع الذات من تفجير فعاليتها الإجتماعية وصناعة الواقع التاريخي، فإنها تنفجر غرائزها وتتفتح الشهوة بدون أن تعرف حدودا أو إمكانية للإشباع أو الإرتواء، فالإنسان الذي يعيش وسط جحيم الخوف و الإرهاب والجهل وانتشار العلاقات الإنتهازية الظالمة ينكفئ على ذاته، ويضيع حزمه ويفقد مقدرته وثقته بنفسه، فتتقلص تبعا لذلك اهتماماته العلمية والروحية، وتتعطل طاقاته الإبداعية، وتقتل حوافزه وطموحاته، وتطغى على نفسه اللامبالاة، ومن ثم يتسع اغترابه _ كل يوم _ عن ذاته و مجتمعه .. وهذا ما يجعل أسير الإستبداد يعيش "خاملا خامدا ضائع القصد، حائرا لا يدري كيف يميت ساعاته وأوقاته، ويدرج أيامه وأعوامه كأنه حريص على بلوغ أجله ليستتر تحت التراب".
إن تقلص اهتمامات الإنسان وفعاليته الإجتماعية يقابلها اهتمام متزايد بشهوات البطن والجنس، وبذلك يصبح المأكل والمشرب والزينة المبالغة فيها والجنس المحموم وتزجية الوقت في اللهو والعبث.. شغل الإنسان الشاغل. وتتولد لديه رغبة شهوانية جامحة لا تعرف الشبع أو الإرتواء .. بل إن الحياة الجنسية ذاتها تصبح "تعاش كأحد مجالات التسلط وساحة من ساحات القهر و الإستبداد.. فيحاول الرجل أن يؤكد فحولته بكثرة اتصالاته الجنسية وتكرار الجماع في اليوم الواحد" وكأن ليس له وظيفة في الحياة سوى " مشاركة الوحوش الضارية في جعلها بطونها مقابر للحيوانات ومزابل للنباتات، واستفراغ الشهوة حتى لكأن جسمه خلق دملا على أديم الأرض وظيفته توليد الصديد ودفعه".
وهكذا تغيب الفكرة، ويعلو الصنم، صنم البطن والجنس وعبادة الذات..!. إنه تصوير رائع وجميل، لأنه يكشف لنا سبب العطالة التي يعيشها أبناء الدول المتخلفة اليوم/ دول العالم الثالث وكل دول العالم الإسلامي .!! ويبرز لنا سببا هاما من أسباب عدم قدرة هذه الدول على تحقيق اكتفائها الذاتي حتى في الحاجات الضرورية كالمواد الغذائية وهو ما ينطبق على المجتمع العربي الذي لا يزال يعتمد على الغرب من الإبرة إلى الصاروخ...‘ فيذهب محمد الغزالي إلى القول بأننا لو قلنا لكل شيء ارجع مكانك لبقينا حفاة عراة...!؟ إن العرب لا يزالون يستهلكون أكثر مما ينتجون رغم امتلاكهم لأحسن الأراضي الفلاحية في العالم..! بالإضافة إلى مواردهم المتنوعة الهائلة كالنفط و الغاز والحديد والمناجم الكثيرة التي تنتج مختلف المواد الأولية وطاقاتهم البشرية المتعددة... ولا خير في مجتمع يموت من الفقر أفراده ويعتمد في بقائه على ما يأتيه من وراء البحار..!!؟
إن غياب الفكرة عن أمة ما، يسهل استبلاهها، وتوجيه اهتمامات أفرادها إلى توافه الأمور: كمواكبة أحدث أنواع التقليعات في المأكل والملبس والزينة وتسقط أخبار الفنانين ولاعبي كرة القدم..!، لأن انغلاق السبل أمام إفراغ طاقات الإنسان فيما يفيد، تجعله يفرغ هذه الطاقات فيما لا يفيد، ولهذا السبب تكثر بين أفراد المجتمعات المتعطلة والمتخلفة الأحقاد التي يحملون، والمكائد التي يضمرون والقيل والقال، التي يتقنون.. و الأمراض المزمنة التي يعانون.. فأينما تولى وجهك، تجد حقدا دفينا توشك أن تتقد ناره، ومكائد تحاك ضد هذا وذاك..وإذا نشط أحد ليعبر عن ذاته ويبدع في ميدانه.. لاحقته الإشاعات وهدته الإنتقادات، وفي مثل هذا المجتمع يسهل تمرير سياسة الإستبداد والفقر والظلم و حكم الطواغيت المتألهين.!!؟ فإذا ما أراد المستبد خوض حرب اقتضاها عناده واستكباره ومصالحه وغروره يغرر بالأمة تحت اسم منفعتها، ويوهمها انه يريد نصرة الدين وصيانة شوكة الشعب وقوته..! ويسرف بالملايين في ملذاته وملذات صنائعه باسم حفظ شرف الأمة وأبهة حاكمها. فالحاكم المستبد تسره غفلة الشعب لأنه يتمكن بغفلتهم من الصولة عليهم و استغلالهم والتنكيل بأعداء إستبداده وظلمه..!
2-الإستبداد الإجتماعي:
إن غياب الفكرة عن الإنسان وخضوعه لهيمنة رغبات البطن والجنس والعادات الفاسدة تخلق منه إنسانا شريرا، يجنح إلى الجريمة والنهب وينتهج كافة السبل ويستعمل كل الوسائل الممكنة لإشباع حاجياته العضوية ورغبته الجنسية الضاغطة عليه والتي لا تعرف الشبع أو الإرتواء أبدا. وتنقلب مفاهيم العدالة في ذهنه رأسا على عقب، فالمجتمع الذي يحكمه الإستبداد السياسي ينتهي به الأمر إلى تطبع غالبية العلاقات التي تتم داخله بطابع التسلط والقهر وإن الإنسان المقهور الذي يشعر بالعجز إزاء قاهره لا يمكن له أن يحس إلا بتبخيس الذات وتحقيرها، ولن يسترجع بعضا من توازنه النفسي إلا بالثأر لذاته المهانة بالإستعلاء على طرف آخر اضعف منه لأن الإنسان المقهور ينتهي باستبطان صورة قاهره وهو ما يجعل "الحكومة المستبدة مستبدة في كل فروعها، من المستبد الأعظم إلى الشرطي إلى الفراش إلى كناس الشوارع".!؟
يسعى الإستبداد السياسي إلى تقسيم الأمة شيعا.. متبعا ديدن الطغاة والمستكبرين على مرّ التاريخ وهو سياسة "فرق تسد".
كما يعمد المستبد إلى تقسيم ثروات البلاد بطريقة جائرة، لينقسم المجتمع بدوره إلى "طبقتين" متناقضتين في مصالحهما، متحاربتين، طبقة تعاني ويلات الفقر والحرمان، تنتج ولا تستثمر وهي عادة تتكون من أولئك الكادحين في ميادين الصناعة والزراعة، فهذه الطبقة هي التي يسلط عليها ظلم الإستبداد واستغلاله .. وهي رغم قيامها بالعمل الشاق والمنتج في المجتمع إلا أنها لا تتمتع بثمار سواعدها.
وتقابل هذه الطبقة المكدودة المستغلة طبقة المستكرشين و المستكبرين وهي تمثل "القسم المضر" حسب تعبير الكواكبي.. وتظم هذه الطبقة رجال السياسة والأديان ونساء المدن... وهؤلاء هم المستمتعون الحقيقيون بثروات الأمة وخيراتها، وينفردون بحظ عظيم من مال الدولة و عطاياها.. رغم أن عددهم لا يتجاوز الواحد في المائة (1%). أنه لعجب كبير أن يستوعب الكواكبي بهذا الشكل المعمق النظرية الماركسية رغم ثقافته التقليدية وعدم تمكنه من لغة أجنبية تتيح له إطلاعا مباشرا على ما كتب حول هذا الموضوع.. بالإضافة إلى انتمائه الطبقي إلى عائلة الأشراف، الذي كان من المفترض أن يحجب عنه مثل هذه الحقائق حتى لو اطلع فعلا على المؤلفات الماركسية مترجمة ومعلقا عليها. لقد لفت ماركس انتباه الناس إلى كون العامل رغم قيامه بالعمل والإنتاج إلا أنه لا يتمتع بنتاج سواعده، حيث أصبحت الطبقة البرجوازية الرأسمالية (يعبر الكواكبي عن ذلك بلفظ الإستبداد المالي) هي المالكة بل المغتصبة لما ينبغي أن يكون ملكا للعمال من مصادر الإنتاج. ثم لا يتردد الكواكبي في الكشف عن سيرة آل عثمان مع بعض الوصوليين من أتباعهم، فقد أطلق السلطان العثماني ويقصد عبد الحميد أيدي هؤلاء الإنتهازيين المتقربين من بابه في تحصيل الثروة بالسرقة من بيت المال "وبالتعدي على الحقوق العامة وبغصب ما في أيدي الضعفاء" كما سهل لهم "الإتجار بالدين" والتعامل بالرّبا وبناء الملاهي والحانات، واستغلال أفراد الأمة... كما خصص المال الكثير لترف المستبد نفسه وسرفه. وتغدق الدولة المال والجاه على صنائعها من الجواسيس والمتمجدين وكل الذين يستخدمون في تحصيل شهواتها، ومن يعينها على طغيانها من المتملقين و"رجال الدين" أمثال أبي الهدى الصيادي عدو الكواكبي اللدود..! ويعيش سائر أفراد الشعب في بؤس وشقاء و فقر مدقع.!!؟
إن هذه التفرقة بين أفراد المجتمع والقسمة الضيزى لثروة الأمة بين مختلف فئاته تولد في النفوس الإحن والعداوات فيكثر المكر والكيد بين الناس ويسود جو من الصراع والتقاتل – وهو ما يسعى المستبدون دوما لتكريسه لتفريق الأمة إلى فرق و شيع متناحرة- ، وما كان ليحدث هذا التطاحن والصراع إلا بسبب من اجتماع الثروة لهذه القلة المستغلة المسرفة والتي قسمت الناس إلى عبيد وسادة. فهذه القلة المالكة المتحكمة التي تسمي نفسها "الأصلاء" تعتبر "جرثومة البلاء" في مجتمع الإستبداد لأنها رباط من ربائط القهر والطغيان، وهي تمثل عونا للمستبد على البقاء والإستمرار والهيمنة و الإجرام.
فالإستبداد الإجتماعي محمي بقلاع الإستبداد السياسي، لأن انقسام المجتمع على نفسه وتشرذمه وانتشار الأحقاد بين أفراده هو ما يسعى الظالمون إلى تكريسه وحمايته وتوفير كافة الأسباب لتواصله واستمراره واتساع أفقه، لأن ذلك هو الضامن الوحيد لبقاء المستبد و أعوانه في سدة الحكم وخنوع الرعية للظلم والإستغلال و الإستغفال.
وهذا الواقع المرير الذي يعيش في ظله الناس ويتنسمون روائحه الكريهة،يولد في النفوس:الإحن والقلق والنقمة على كل شيء ويساعد على التظالم بين الوالد وولده والجار وجاره، والمرأة وزوجها حتى يعم البغي الإجتماعي والتظالم كافة أفراد المجتمع.
إن الحكومة المستبدة تقتل في النفوس العزة الحقيقية بالمفاخرة بالأعمال النافعة، وتخلق نوعا من السيادة الكاذبة و كثرة المتملقين، لأن هذه النفوس لم يعد يهمها المجد الحقيقي باستجلاب محبة الناس، وإنما يهمها التمجد والقربى من ذوي السلطان.. وفي مثل هذا المجتمع تفتقد علاقة المحبة والمودة بين الناس و تكثر ضغائنهم، وتنحرف ميولاتهم الطبيعية، حتى يغدو الواحد لا يحب قومه لأنهم عون الإستبداد عليه، ولا يحب وطنه لأنه يشقى فيه ويود لو هاجر منه.. إذ على رأي فولتير:" في ظل ملك صالح يكون للإنسان وطن. ولكنه في ظل ملك شرير لا وطن له" كما تضعف محبة الإنسان لأسرته لأنه ليس سعيدا فيها. ولا يركن إلى صديقه لأنه قد يأتي يوم يكون عونا للظلم والباطل ومصدر شر له. و لا تحب المرأة زوجها لأنه متطبع بالإستبداد و الإجرام مثله مثل رئيسه المستبد إلاهه المعبود ..؟!!
وهكذا يصل المجتمع إلى حالة من التنافر والإضطراب، فتمرض العقول ويختل الشعور، ويفتقد الناس إلى معايير التمييز بين الخير والشر في كل ما ليس من ضروريات حياتهم الحيوانية والبيولوجية. ويصبح باسهم بينهم شديد ، ويعيشون بالتغالب والتحايل لا بالتعاون و التبادل ويسقطون بالتالي في مستنقع التخلف والإنحطاط.
3- الفوضى وانحطاط الأخلاق:
تنقسم الخصال حسب الكواكبي إلى "الحسنة الطبيعية، والشرعية و الإعتيادية" لكن كل هذه الأقسام تشتبك وتشترك ويؤثر بعضها في بعض ويكون مجموعها تحت تأثير الألفة.
ومادامت العلاقات التي تحكم المجتمع فاسدة فلا يمكن للإنسان الذي يعيش في ظلها إلا أن يتطبع بأخلاق رديئة انبثقت مباشرة عن علاقات الظلم والقهر والفساد التي يرزح تحتها المجتمع ويعيش تحت كلاكلها ومن ثم تصبح خُلة فيه.
لا تكون الأخلاق أخلاقا ما لم تكن مبنية على قانون ونظام، والمستبد يقلقه أن تنتظم حياة الأفراد ويسير الناس وفق نظام ضابط واضح وجلي و معايير معلومة و بينة، لأن انتظام الحياة يسهل على الناس التمييز بين الغث والسمين، وبين الخبيث والطيب. لذلك فالمستبد في حرص شديد أن تكون المعيشة في إدارته ويكون النماء فيها يشبه نماء الأشجار الطبيعية في الغابات وأن يترك الأمر للصدفة تعوج أو تستقيم تثمر أو تعقم.
إن مصلحة المستبد والكيفية التي ينظر بها إلى الأشياء تقتضي أن يكون كالحطاب الذي إن وجد أشجارا رائعة وثمارا يانعة وأزهارا ناعمة مغروسة في انتظام وروعة، أفسدها بالقطف وخربها بغية إرضاء شهوته وتحقيق ما يراه نافعا له وحده. ألم يقل "منتسكيو" : أن طبيعة الحكومة الإستبدادية تشبه متوحشي "لويزيانا". فعندما يريدون قطف الثمار يقطعون الشجرة من أصلها..! وبالتالي فإن مقام المستبد بإزاء الأخلاق كمقام الحطاب الجاهل الذي لا يرجى منه خير مطلقا، فهو مخرب مفسد.. ويزداد شرّه قسوة إذا كان غريبا (تركيا في مقام الحال) عن ديار العرب ولم يخلق من تربتهم.!؟
وهذه الفوضى السياسية تجعل الفرد لا نظام في حياته ما دامت كل القوى التي لها تأثير وسلطان على المجتمع تدفعه بطريقة أو بأخرى أن يعيش في فوضى، مشوش البال بحيث تنحصر كل اهتماماته في حفظ حياته الحيوانية حياة "الدناءة" – حسب تعبير الكواكبي- ويعيش محروما من الملذات الروحية والفكرية التي ترتقي به إلى مصاف الإنسانية الحقة..! قد يوجد في هذا المجتمع بعض الأخيار الذين استطاعوا تزكية نفوسهم من وباء المجتمع ومقاومة التيار الجارف للفساد، لكن الإدارة المتعسفة ترغمهم على إلفة الرياء والنفاق بصورة ظاهرة أو خفية لأنها تعين الأشرار على باطلهم آمنين حتى من الإنتقاد والفضيحة ‘ فلا يجرؤ أحد على التشهير بهم أو تقديمهم إلى "العدالة" وهل هناك عدالة في ظل حكومة المستبدين!؟ بالإضافة إلى خوف الناس من تبعة قول الحق وما يجره عليهم من ويلات..!!؟؟
فالأمة الواقعة تحت حكم الإطلاق تفتقد في الغالب الأعم إلى المربين الصادقين ذوي الخبرة والمعرفة الصحيحة فقلّ أن يوجد بها "من يعلم التربية أو يعلمها".. فالقلة التي تتصدر "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" هم على الأكثر من رجال السلطان أو من أولئك المتملقين المرائين الذين لا خلاق لهم.! وهؤلاء ينحصر موضوع نهيهم في الرذائل النفسية فقط دون غيرها من الرذائل السياسية و الإجتماعية و الإقتصادية.. مما لا يفيد الأمة في شيء. لأن المجتمع في واقعه ليس مجرد مجموع أفراده فهو حقيقة قائمة بذاتها، وله قوانينه الصارمة ومطالبه ومقتضياته الخاصة التي تزيد عن كونها حاصل جمع آلي لاتجاهات الأفراد المكونين له.
لقد فطن الكواكبي إلى هذه الحقيقة الإجتماعية و العلمية الهامة. وكان فيها سابقا لعصره، وهذا ما دفعه إلى خوض حرب لا هوادة فيها ضد أولئك الذين كانوا يعتقدون أن المجتمع ليس إلا مجموع أفراده، وإن إصلاح الأفراد معناه إصلاح المجتمع. إن إمكانية تغيير المجتمع بالتركيز على إصلاح أخلاق الفرد وهو لا يزال يعيش في ظل علاقات الإستبداد مستحيلة وغير عملية، لأن المجتمع تحكمه علاقات سياسية واجتماعية، وتربط بين أفراده أفكار ومشاعر وأنظمة وقوانين موحدة، فإذا ما أريد تغيير أي مجتمع فلا بد من تغيير هذه العلاقات الفاسدة التي تحكمه وعلى رأسها النظام السياسي وطرق توزيع الثروة أي تغيير كل القوانين التي تسير دواليب الدولة : وهو ما يجعل من الإعتناء بالتربية زمن الإستبداد حمق وبلاهة وجهل لطبيعة الإصلاح والتغيير و حقيقته.!
فالأجدى بالإنسان الساعي بصدق إلى تغيير حقيقي وانقلابي/ثوري أن يجتهد أولا في إزالة الإستبداد وتغيير العلاقات والأفكار التي تحكم المجتمع الذي يعيش طور الإنحطاط بأفكار أخرى تقدمية.. تحمل بذور النهضة والرقي و التغيير الحقيقي، عندها فقط يصبح الإعتناء بالتربية مثمرا، لأن التربة حينئذ تصبح مهيأة لتقبل الغرس الطيب..أنه لمن العبث أن يفكر إنسان في تربية الناس وهم يعيشون وسط انخرام علاقات المجتمع السياسية والإجتماعية و الإقتصادية لأن كل ما يمكن أن تبنيه التربية في أعوام يهدمه الإستبداد في ساعات. إذ بمجرد أن يختلط المرء ببني جنسه ويشارك المجتمع الحياة العامة يصطدم بفساد علاقاته وانخرامها كاستشراء الرشوة والوصولية والتمجد والإستغلال و الفساد، فإذا صمد قليلا فإنه لا يمكنه أن يصمد طويلا، فينخرط بدوره في حركة المجتمع ويخضع لقوانينه وأخلاقه الفاسدة وينسى تلك الأخلاق السامية التي نُشئ عليها منذ كان طفلا، وهكذا يضيع مجهود سنوات بمجرد اختلاط الإنسان بمحيطه و بمجتمعه.
III- شروط بقاء الإستبداد و ركائزه:
1- الإرهاب:
جاء في تمفصلات تحليلنا السابقة أن سبب الإستبداد المباشر: الخوف الذي يهيمن على نفوس أفراد الشعب. فالخوف بمثابة الوحش الكاسر الذي يخضع الرعية لسلطان المستبد وزبانيته ويجعلهم قاصرين و عاجزين عن الحركة والوقوف في وجه الظلم المسلط عليهم وتخليص ذواتهم من الإستبداد. فهو روح المستبد وعدته والأرض الصلبة التي يقف عليها، يعرف المستبد أنه لولا استشراء الخوف بين الناس ما دام له سلطان، ولا امتد له نفوذ، لذا فهو في سعي دائب لتربية هذا الوحش الكاسر وإطالة أظافره ورعايته بكل الوسائل المستحدثة حتى يتمكن من بسط هيمنته على كافة أفراد المجتمع.
لا يعدم الطغاة وسيلة يرونها تكرس الخوف منهم وهيبتهم وتنشر الرعب إلا ويستعملونها للضغط على النفوس والأرواح والأجساد. فهم ما فتئوا منذ أقدم العصور يبتكرون الحيل ويطورون وسائل الإرهاب للضغط على العقول حتى يكمموا الأفواه عن الشكاية والضجيج، ويحكموا من قبضتهم على رقاب الناس حتى تضمن لهم القوة والإستمرار في الحكم.
فالإستبداد ليس مجرد رغبة وشهوة شخصية، ولا حتى غفلة جماهيرية فحسب وإنما هناك شروط وركائز يعتمدها الظالمون للحفاظ على عروشهم وحماية مصالحهم من كل ما من شانه أن يهدد سلطانهم بالزوال، ويمكن حصرها في ست(6) ركائز أساسية تتصدرها عملية الإرهاب نفسها، فالمستبد يعتمد عادة على أجهزة مختصة لإرهاب الناس وتخويفهم وقهرهم وإذلالهم، مثل أجهزة البوليس والجواسيس والعملاء وغيرهم... فكلما كان الطاغية حريصا على العسف والخسف والتنكيل بالأحرار احتاج إلى زيادة جيش هؤلاء ممن لا خلاق لهم ولا ذمة، فهذه الشرذمة التي يعتمدها المستبد للإرهاب والتنكيل هي من أقسى الناس قلوبا وأحطهم أخلاقا وأقلهم مروءة، فالأسافل لا يميلون لغير اللأسافل من المتملقين و المنافقين مثل صاحبهم المستبد الأكبر، ومهمة هؤلاء الأوغاد: إخضاع الناس بالقوة وتذليلهم حتى يصبحوا منهم ومن السائرين في ركبهم، ومراقبة كل معارض لحكم القهر والجبروت..! والتجسس على الناس في ديارهم وإثارة القلاقل والفتن ونشر الفساد، وتكميم الأفواه حتى لا تنبس ببنت شفة، وتحطيم أصحاب الأقلام الحرة، ودفع الناس إلى أن يعيشوا عيشة البهائم..!!؟
إن الغاية من تكثيف أجهزة الإرهاب هي إذلال الناس وتحطيم حياتهم و معنوياتهم.. وجعلهم طائعين مستسلمين لا يرجى منهم خير أو صلاح، وكيف يرجى الصلاح من أناس يعيشون تحت الإرهاب ليل نهار فتكثر هواجسهم حتى يعتقدوا أن داخل رؤوسهم جواسيس عليهم، وبذلك يصبح أسراء الإستبداد يعيشون داخل سجون وهمية صورتها لهم نفوسهم المريضة وهواجسهم الكثيرة.
2-القوة المسلحة:
إن القوة المسلحة والجيش الذي أنيط بعهدته – في الأصل- مهمة حماية ثغور الأمة من الأعداء المتربصين، ينقلب في عهد الإستبداد إلى قوة معادية لمصالح الأمة، تخدم المستبد وتكرس الإرهاب وتوجه طاقاتها لإثارة الفتن والقلاقل الداخلية وتصبح درعا تحمي المستبد وأعوانه وقت الشدة وتحول بين الأمة واقتصاصها من الطغاة.
فعهد الظلم يقلب حقائق الأشياء ومهماتها البديهية وينحرف بأدوارها في سبيل حماية المصالح المعادية لمصالح الأمة.إن الجهاز العسكري الذي كونته الأمة وصرفت عليه الأموال الطائلة لنشر الأمن والإستقرار بين الناس وحمايتها من تسلط الأعداء.. يصبح وقت الإستبداد جهازا مختصا في نشر الرعب وترويع الآمنين ومن ثم يسير بالأمة نحو التآكل الداخلي والإندحار.!؟
3- القوة المالية:
كما تعتمد إدارة الطغيان على الرجعية الداخلية التي تحتكر الثروات، فهؤلاء بفضل الثروة الطائلة التي اغتصبوها من عرق جبين الأمة ظلما واعتسافا يكثرون من إظهار الأبهة والعظمة وإنشاء الأماكن الخاصة بهم وحدهم لمتعتهم وسمرهم ويستكبرون على الناس بأموالهم وسلطانهم. ويطلق المستبد أيدي هؤلاء في ظلم الناس وإذلالهم وغصب حقوقهم وأكل أرزاقهم حتى تنكسر شوكتهم ويكثر أنينهم وتستفحل أسقامهم، فيعجزون ضرورة عن مقاومة الإستغلال والظلم المسلط عليهم... يدرك المستبد أهمية أهل الثروات في مساعدته على إذلال الرعية وإخضاعها واسترهاب أعين الناس وسحر عقولهم بما يصبغونه على أنفسهم من مظاهر الأبهة والإستغلال فيعطيهم الألقاب والرتب وشيئا من النفوذ والتسلط على الناس. ويذللهم بالترف حتى يجعلهم يترامون بين رجليه ثم يتخذهم لجاما لتذليل الرعية لأنّ الكل يجب أن يكون في خدمة السلطان، فهو "الرب" وهم "العبيد" ولا يمكن أن يترك أحدا يعلو على مقامه ولذلك يعمد في كثير من الأحيان إلى نشر الفساد بينهم وإلهائهم بملذات الحياة ونعيمها لإبعادهم بذلك عن أي انخراط مع أحرار الأمة في مقاومة الظلم أو الإتفاق عليه أو الإنقلاب ضدّه.
4- العادة والألفة:
تقتل العادة والألفة التفكير وتحيل ذهن المرء على التقاعد المبكر، لأن العادة – وهي أخطر فتكا من كل داء- تجعل الناس يستنيمون للظلم ويستكينون له ويألفون القسوة والركود لا يحركهم ظلم أو طغيان ولا يغضبون لانتهاك الحرمات ولا يحرجهم التعدي على الأعراض، قد فقدوا الرجولة والشهامة وأصبح الألف منهم كأف مما يحولهم في ذهن المستبد وزبانيته إلى مجرد "أشباح فيها أرواح" فيصبح ما لهم فيئا ينتهب وشرفهم – إن كان لهم شرف أصلا- مهانا وكرامتهم في التراب، فالمستعبد الذي يعيش في ظل الإستبداد السياسي لا يملك مالا غير معرض للسلب ولا شرفا غير معرض للإهانة ولا يملك آمالا مستقبلية وتقتصر حياته على الملذات الحيوانية لأنه لا يعرف غيرها.
تنحط الألفة بالإدراك وتسهل انخداع الناس بالمظاهر الكاذبة التي يتفنن المستبد وأعوانه في إبرازها للإرهاب والتخويف، فتسيطر الأوهام على الأذهان ويسهل انصياع الناس للأكاذيب والأراجيف "انصياع الغنم بين أيدي الذئاب" فيصيرون إلى حتفهم ويهلكون أنفسهم بأيديهم وأيدي الطغاة و زبانيتهم..!!؟
5- القوة الخارجية " الإستعمار":
الإستعمار هو العمل، أو مجموعة الأعمال التي من شأنها السيطرة أو بسط النفوذ بواسطة الدولة، أو جماعة من الناس، على مساحة من الأرض لم تكن تابعة لهم، أو على سكان تلك الأرض أو على الأرض والسكان في آن واحد. هذا هو المفهوم الظاهر الذي اصطلح عليه الناس للإستعمار، أما ما نقصده هنا فيتمثل في مناصرة المستبد ومد يد العون له من قبل الدول الخارجية، فلقد كان الإنفراد بالسلطة والإستبداد بأمر الأمة ثغرة حرص الغرب الإستعماري على بقائها حتى تظل فرصته سانحة لإغتصاب استقلال البلاد. لأن الإستعمار يتفق مع إستبداد الأتراك بالعرب بكونه يمثل أسوأ مظاهر الإستغلال والإستعباد والتخريب والتدمير، فالشعب المالك يتمتع بحريته ويسير وفق إرادته، والمملوك مسير لا مخير، وليس له من الإرادة في تصريف أمره وتكييف مجرى حياته إلا بمقدار ما يسمح به سيده المالك المهيمن.
وهكذا تلتقي دائما مصالح الإستعمار والمستبدين و تتحد.. وعوا بذلك أو لم يعوا..! إذ يكفي الحاكم المستبد جرما في حق أمته أن يهيئ النفوس للظلم ويفقدها الحصانة على المقاومة. والثابت أن الإستعمار الغربي ما دخل ديار العرب والمسلمين إلا لما فقدت هذه الأخيرة حصانتها الداخلية و صارت لها قابلية الإستعمار بفضل عصور الإستبداد والإنحطاط وانفراد المستبدين /المتألهين في ديارنا بالحكم و النفوذ و ثروة البلاد.. !!؟
لكل هذه الأسباب اعتبر الكواكبي أنه من العدل الإلهي وقوانينه الأزلية في الكون أن الشعب الذي رضي باستبداد حكامه ولم يعمل على مقاومته أن يتسلط عليه شعب آخر يستعبده ويستعمره وينتهب خيراته... وهو بذلك يحذر الشعوب الإسلامية من مفاجآت المستقبل ما دامت قد رضيت باستبداد الأتراك العثمانيين، والكواكبي يعرفنا أن أي شعب لا يتعرض إلى الإستعمار الخارجي إلا بعد أن يفقد حصانته الداخلية التي ضمنتها له "الإسلامية" وهو البديل الذي طرحه الكواكبي للتخلص من الإستبداد وتحقيق النهضة كما سنرى لاحقا.
6- رجال الدين:
وهم الذين ربطوا أنفسهم بنظام المستبد وباعوا ضمائرهم للشيطان.. ! فعادة ما يعمد هؤلاء إلى تأويل الدين تأويلا يجانب الصواب عن عمد، ويقلبون الحقائق ويزيفونها، فيوهمون الناس بأن الإستبداد وكل ما يتسلط عليهم من قبل زبانية السلطان / المستبد من ظلم واعتساف قضاء وقدر "جاء من السماء فلا مرد له بغير الصبر والرضا" ويطلقون على أي ثورة ضد السلطان الجائر "فتنة" والفتنة أشد من القتل!؟ وقولهم "حاكم غشوم خير من فتنة تدوم"؟ ويلزمونهم بطاعة "أولي الأمر". وإن كان لا يربط هؤلاء المستبدين بالإسلام إلا انتسابهم إليه انتسابا شكليا و وراثيا، كما يشيعون بين أفراد الأمة أن التخلف جاء"بسبب التهاون في الدين" فما عليها (الأمة) إلا أن تكثر من العبادة والنسك وإقامة الطقوس الدينية فينصلح الحال، في حين أن هذا الجانب من جوانب الدين لن يزعج أهل الباطل والإستبداد في شيء، ولن يقض مضاجعهم بل من المؤكد أن مثل هذه الآراء تساعدهم على إحكام قبضتهم على رقاب المسلمين وإبقائهم في درك الإنحطاط. فزيادة العبادة والنسك عن حدها المشروع "أضر على الأمة من نقصها، كما هو مشاهد في المتنسكين" وبالتالي تصبح نية هؤلاء "المتفقهجين و المتاجرين بالدين" الكذب على الأمة وخداعها رغم علمهم أن حكم الإطلاق رأس كل شر ووراء كل مصيبة.!
حرص الكواكبي لما كان بصدد البحث في علاقة الإستبداد بالدين أن يهدم الآراء الخاطئة عن الإسلام التي تبناها المسلمون.!؟ ودحض الإنتقادات التي يوجهها إليه الأوروبيون في آن واحد‘ مثل نسبتهم الإستبداد إلى الإسلام ومبادئه نفسها.!!!؟
فلقد شاع لدى بعض المفكرين الغربيين الرأي القائل بانبثاق الإستبداد السياسي عن الإستبداد الديني لاعتماد كليهما على ركيزة أساسية وهي الخوف. فتاريخ الأديان يعلمنا أن المعتقدات القديمة وخاصة المعتقدات الطوطمية قد ظهرت بسبب ما كان يستشعره الإنسان البدائي من خوف تجاه قوى طبيعية متعددة تتحكم بقسط كبير في حياته. ولقد جاء قول ماركس ملخصا لهذه الآراء حينما قرر: "أن كل دين ليس سوى الإنعكاس الواهم في دماغ البشر للقوى الطبيعية التي تسيطر على وجودهم اليومي". ولا شك أن النظرة العادية لمنشأ كل من الإستبداد والدين يخرج بنتيجة مؤداها وجود اتفاق كلي بين الركيزة التي يعتمدها الإستبداد لبسط نفوذه على أرواح البشر وأجسادهم، والركيزة التي يعتمدها الدين للتحكم في عالم القلوب .. فهما: "أخوان أو صنوان بينهما رابطة الحاجة على التعاون بتذليل الإنسان" وهذا ما يجعل الإصلاح السياسي مشروطا بإزالة الدين أو عزله عن الحياة- حسب تأكيدات رجال الأنوار-، فها هو أحد المتنورين الغربيين يحدثنا بحماس فياض عن فكرة التحرر والإنعتاق من ربقة الكنيسة التي كانت تضطهد الناس وتستبد بهم باسم الدين. يقول كوندرسي كاريتا Condorcet Caritat (1743-1794): "إيه أية صورة رائعة للجنس البشري إذ يتحرر من قيوده وينعتق من عبودية الصدفة، وكأنه ينعتق من أعداء التقدم، ثم يسير بخطى ثابتة أكيدة على طريق الحقيقة والفضيلة والسعادة تعنّ للفيلسوف فتعزيه عن الأخطاء والجرائم والمظالم التي ما زالت الأرض تعج بها والتي كثيرا ما يقع هو ضحيتها، وهو يجد مكافأة لجهوده من أجل تقدم العقل والدفاع عن الحرية في تأمل هذه الرؤيا، عند ذلك يجرؤ على ربط جهوده بالتسلسل الأزلي للقدر الإنساني وهو يجد هناك المكافأة الصحيحة للفضيلة. وتلك هي اللذة في أنه خلق خيرا، ثابتا لا يستطيع القدر أن يهدمه مهما وعد من ثواب في مقابل إعادة الأفكار الموروثة والعبودية".
إن الكواكبي وهو العالم المتبحر في معرفة التاريخ قديمه وحديثه، يقر بصحة هذه الآراء التي تقف ضد موروث الدين، ويتعاطف معها.. غير أنه يقرر أن هذه الأفكار وهذه الآراء لا تنسحب على الإسلام، بل تنسحب فقط على المسيحية واليهودية بسبب ما قام به أتباع هذه الديانات من تحريف لكتبها المقدسة، وهو ما لم يقع للقرآن الذي حفظه الله من التحريف وحماه من التبديل بسبب اختلافه عن قول البشر و إعجازه و تجاوزه لقدرات الجن و الإنس و لو اجتمعوا.. وهو ما يجعل مقولة أن القرآن جاء باستبداد مؤيد للإستبداد السياسي لا أساس لها من الصحة، خاصة وان القرآن لا يزال بيننا ويمكننا التثبت من بطلان مثل هذه المقولات والإدعاءات. لقد انفرد الإسلام من دون كل الأديان بإماتة الإستبداد ومحاربته بفضل ما حوته تعاليمه من دعوة للشورى وعدم الإنفراد بالرأي وإحياء العدل والتساوي.
إن جعل كلمة لا إله إلا الله محور الدين في الإسلام كفيلا بأن يذكر النفوس أن العزة لله وحده، وأن النفوس لا يصح أن تذل لأحد سواه أو ترهب غيره،أو تتبع قانونا غير قانونه.. فهذه الكلمة توحي بالضعف أمام الله والقوة وعزة النفس، فثمرة الإيمان بوحدانية الله "عتق العقول من الإسارة" على حد تعبير الكواكبي.
فإذا ما كان الدين الإسلامي خاليا من السلبيات المقيتة التي من شأنها أن تعطل الإنسان أو تخدره أو تصرفه عن مقاومة الإستبداد، وهو صالح لكل زمان ومكان، فإن الخطر كل الخطر يكمن " في العلماء المتعممين" من رجال السلطان الذين يقلبون الحقائق ويزيفونها و يشرعون للظلم و الإستبداد في سبيل خدمة الطغاة وإرضاء شهواتهم، وبذلك يصبح هؤلاء "أضر على الدين من الشياطين" لأن هذه الفئة الضالة تستخدم رسالات السماء لخدمة المستبد لنيل فتات موائده.
إن حملة الكواكبي على رجال الدين لها ما يبررها تاريخيا، فقد كثر في زمنه المتملقون من العلماء ورجال الدين والمتصوفة، ولعل أبا الهدى الصيادي كان يمثل رمزا لكل هؤلاء، فقد قال عنه محمد عمارة: "كبير مشعوذي الدولة العثمانية في ذلك الحين وهو الذي ساهم في اضطهاد العديد من الأحرار. وفي مقدمتهم جمال الدين الأفغاني، وعبد الله نديم، ومحمد عبده" وكان عدوا للإصلاح، ملأ من ضحاياه السجون والمعتقلات وأعماق البحار، ونفى وأذل وأفقر من البشر ما لا حصر له، واستطاع أن يلعب بعقل السلطان عبد الحميد ويستبلهه بحيل روحية حتى انقاد له ومكن له في الأرض ليعبث فيها ويهلك الحرث والنسل. وكان لجمال الدين الأفغاني رأي فيه، وهو مناجزته، وللشيخ عبده رأي آخر فيه هو مسايرته، ويظهر أن الكواكبي قد أخذ برأي جمال الدين فأقام عليه حربا ضروسا لا هوادة فيها ناهيك بما كان بينهما من خصام عائلي.
الباب الثالث:
النزعة النقدية و الإصلاحية لدى الكواكبي:
1- نقد الإستبداد بين الكواكبي و" الفياري":
كنا قد بينا في تمفصلات تحليلنا السابقة اقتناع الكواكبي بضرورة الإستفادة من الفكر الغربي الحديث، وحضارته بل والإقتباس من تعاليمه إن كان ذلك يساعد العرب على الخروج من مستنقع التخلف والإنحطاط الذي هوَوْا فيه. وأتينا على ذكر بعض مؤثرات فلاسفة الأنوار على فكر الكواكبي. كما ألمحنا إلى أن أبرز الذين كان لهم تأثير عميق في فكر الكواكبي عند نقد الإستبداد، الأديب الإيطالي "فكتور الفياري"، حتى أنه بلغ من شدّة تأثر مؤلفنا بهذا الأديب أن امتدحه في كتاب "الطبائع" واقتبس الكثير من أفكاره، واستمد منه إطار كتابه... وسنحاول في هذا الفصل أن نلقي مزيدا من الأضواء على علاقة الكواكبي الفكرية بهذا الأديب بإقامة مقارنة نموذجية بين بعض ما ورد في كتاب "طبائع الإستبداد" للكواكبي، وكتاب "الإستبداد" للفياري في الجدول التالي:
الكواكبي الفياري المفهوم
الإستبداد: صفة للحكومة المطلقة العنان التي تتصرف كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين... كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولى الحكم بالغلبة أو الوراثة.. تشمل أيضا الحاكم الفرد المقيد الوارث، أو المنتخب. ص31و32. الطغاة: كل الذين توسلوا بالقوة أو حتى بإرادة الشعب أو النبلاء إلى القبض
التام على أطراف الحكم ويعتقدون أنهم فوق القانون أو هم كذلك... والطغيان الصفة التي يجب أن تنعت بها.. أي حكومة يستطيع فيها الشخص المنوط بتنفيذ القوانين أن
يضعها أو يقضي عليها أو ينتهكها أو يفسرها أو يعرقل سيرها أو يوقفها وهو في مأمن من العقاب ص12و15.
مفهوم الإستبداد
المستبد على الدوام محاطا بالأعداء ملحوظا بالبغضاء، غير أمين على حياته طرفة عين. وكلما زاد المستبد ظلما واعتسافا زاد خوفه من رعيته ومن حاشيته. وحتى من هواجسه... ص 53.
لا استعباد ولا اعتساف ما لم تكن الرعية حمقاء تتخبط في ظلامة جهل وتيه عماء. ص 50.
كلما كان المستبد حريصا على العسف احتاج إلى الدقة في اتخاذ أعوانه من أسفل السافلين... فالتمجيد خاص بالإدارات المستبدة. وهو القربى من المستبد بالفعل. ص83
المستبد.. يتخذ بطانة من أهل الدين المستبدين يعينونه عل ظلم الناس... ويذللهم بالقهر والقوة وسلب الأموال حتى يجعلهم خاضعين له... ص36. الخوف والشك، رفيقان لا ينفصلان عن كل قوة غير شرعية.. ص24.
الجهل، والتملق والخوف أعطت ولا تزال تعطي الحكم الملكي المستبد شرعية وجوده. ص 18.
لا يشعر (المستبد) بالأمن إذا لم يعط المناصب الأكثر أهمية في الدولة إلى أناس لا أخلاق لهم... وقد باعوا أنفسهم له، يشبهونه ويفكرون بعماء بعده، وهذا يعني أنهم أكثر الناس ظلما وعسفا... ص28.
المستبدون:الخوف ركيزتهم والمليشيا والدين وسيلتهم ص 102.
ركائز الإستبداد ووسائله
إني أرى قصر المستبد في كل زمان هو هيكل الخوف عينه فالملك الجبار هو المعبود، وأعوانه هم الكهنة، ومكتبته هي المذبح المقدس، والأقلام هي السكاكين وعبارات التعظيم هي الصلوات والناس هم الأسرى الذين يقدمون قرابين. ص 54. قصر الملوك هو هيكل الخوف، والمستبد هو المعبود، وأعوانه هم الكهنة (أما) الحرية... وحب العدل والفضيلة والسعادة الحقيقية، ونحن أنفسنا فضحايا ندفع الثمن كل يوم...ص 22.
صفات الإستبداد
الإستبداد السياسي متولد من الإستبداد الديني. ص 35. الإستبداد الديني ولـّد الإستبداد المدني. ص 64. الإستبداد والدين
وأما أسراء الإستبداد...فملذاتهم مقصورة على مشاركة الوحوش الضارية في جعلها بطونها مقابر للحيوانات ومزابل للنباتات، وعلى استفراغهم الشهوة كأن أجسامهم خلقت دملا على أديم الأرض وظيفتها توليد الصديد ودفعه. ص131
..المعيشة البشرية، في الإدارات المستبدة (هي) محض نماء يشبه نماء الأشجار الطبيعية في الغابات والإحراج...ص102
... ولهذا فإن الفلاسفة المفكرين لدى الشعوب الحرة، لا يجدون أي فرق بين الحياة الحيوانية وتلك التي يحياها الإنسان الذي لا يتمتع بحريته، وبإرادته وأمنه، ولا يتحكم في نفسه... ولا يتمتع بسعادة حقيقية. ص 123.
إسراء الإستبداد لا أسمي حياتهم حياة إنسانية بل هي حياة النبات. ص 138
حياة الواقعين تحت الإستبداد
المستبد في لحظة جلوسه على عرشه... يرى نفسه كان إنسانا فصار إلاها. ص 65 المستبد لا يمكن أن يحب رعيّته ويرى أنهم تحته. ص 131. علاقة المستبد برعيته
حرص التمول يخف كثيرا عند أهالي الحكومات العادلة. ص 79. ...ويحسن بنا أن نلاحظ أيضا أن الفرق بين الإستبداد وبين حكومة عادلة... ص 16 نقيض الإستبداد
الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها، بآلام الإستبداد لا تستحق الحرية.ص140. الشعب الذي لا يشعر بوطأة العبودية قد وصل إلى درجة كبيرة من البلاهة، وهو لا يستحق الحرية السياسية. ص150
شروط الإنعتاق من الإستبداد
الإستبداد لا يقاوم بالشدّة، إنما يقاوم باللين والتدرج. ص 140. في الدول التي يوجد بها الإستبداد متجذرا منذ أجيال عديدة يصبح من الضروري توفير وقت كاف كي يستطيع الوعي المتأخر تحطيمه. ص 155.
كيفية التخلص من الإستبداد
يكشف لنا هذا الجدول المفاهيم الكثيرة التي استقاها الكواكبي من مؤلف "الإستبداد للفياري"، لكن ذلك لا ينقص من قيمة ما كتب الكواكبي في نفس هذا الموضوع (الإستبداد) ولا يقلل من طرافة ما حبّر. فلقد تميّز مؤلفنا بوضوح وإحاطة شاملة بموضوع بحثه – كما سبق وبينا - بالإضافة إلى محاولته الطريفة في التوفيق بين بعض منتجات الفكر الغربي الحديث وبين التراث العربي الإسلامي. لكنه لم ينج من انحيازات طبقية عندما قرر أن إدارة شؤون المجتمع يجب أن تبقى حكرا على فئة من أشراف الأمة، متناسيا أن الفرد الذي لا يشارك في إدارة شؤون مجتمعه هو إنسان ميت، وبالتالي فهو قد حكم بالموت على الملايين من أفراد المجتمع الذي يسعى لتغييره!؟
2- التقاطع بين الشرع والغرب في فكر الكواكبي:
كنا قد مهدنا إلى هذا العنصر بما ورد في تمفصلات تحليلنا من ذكر لبعض مؤثرات الفكر الغربي الحديث على أراء الكواكبي النقدية وأفكاره الإصلاحية واستقائه للكثير من المفاهيم والأفكار من الكاتب الإيطالي "الفياري" . فنلاحظ أن الكواكبي قد أقام منهجه الإصلاحي على ركيزتين أساسيتين:
الوعي بالوضع القائم.. ثم العمل على تغييره.. والوعي في رأيه مزدوج: وعي الذات ووعي الآخر...: أما وعي الذات فيتمثل في نفي ما يطمسها أو يشوشها من المفاهيم الخاطئة، خاصة تلك التي علقت بالدين الإسلامي، وفضح الممارسات الخاطئة التي ترتكب باسم الدين أيضا. وهذا لا يأتي إلا بتقديم المفاهيم الصحيحة، والحرص على إقامة كيان تنفيذي وهو الحكومة التي ترعى الممارسات الصحيحة وتمهد لها.
أما وعي الآخر (الغرب أساسا)، فالقصد منه الإستقلالية عنه: يقول الكواكبي في "أم القرى": "وأما الناشئة والمتفرنجة فلا خير فيهم لأنفسهم فضلا عن أن ينفعوا أقوامهم وأوطانهم شيئا". وقد قبل الكواكبي الإنفتاح على حضارة الغرب، سواء كانت مادية أو معنوية للإستفادة من علومه الصحيحة والصناعات المفيدة واقتباس أنظمة الحكم العادلة التي لا تخرج عن روح الإسلام كالديمقراطية والحرية والاشتراكية، دون مجاوزة ذلك التأثر بثقافته وفلسفاته المادية الملحدة..!؟: يقول الكواكبي كاستنتاج بعد مقارنة طويلة: "فهذه أمم أستراليا وأمريكا قد هداها العلم لطرائق شتى وأصول راسخة للإتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، والإرتباط السياسي دون الإداري. فما بالنا لا نفكر في أن نتبع إحدى تلك الطرق أو شبهها".
وهو إذ يدعو إلى الإقتداء بالغرب حتى في أنظمة الحكم يعتقد اعتقادا راسخا أن الغرب قد " قرّر قواعد أساسية في هذا الباب تضافر عليها العقل والتجريب، وحصحص فيها الحق اليقين، فصارت تعد من المقررات الإجتماعية عند الأمم المترقية " مقتديا في ذلك بسلفه خير الدين التونسي الذي كان قد قرر هو بدوره أن أساس قوة أوروبا وازدهارها "المؤسسات السياسية القائمة على العدل والحرية"، ولا يمكن للأمة أن تستعيد قوتها ومجدها إلا إذا عرفت مكامن هذه القوة وتبنتها..!!؟؟
فالأصالة عند الكواكبي لا تعني رفض الآخر، أو عدم التفاعل معه أو الإنفتاح عليه .. وهي لا تعني كذلك عدم الإفادة منه أو محاكاته، فالأصالة في نهاية المطاف لا توّرث وإنما تبتدع بهدي من "الإسلامية" وهي ليست ماهية ثابتة وإنما هي قوة متحركة، فما يصلح لمجتمع معين في مرحلة معينة من تاريخه قد تنعدم فائدته تماما بالنسبة له في مرحلة أخرى، وبالتالي فإن معايير الأصالة في الماضي غيرها في الحاضر، وستكون في المستقبل غيرها الآن..
لم يكن هاجس الكواكبي إذن تحطيم الآخر أو نبذه، وإنما كان هاجسه بناء الذات، ومنذ أن تبنى الذات، تقوى وتستقل وتثبت هويتها إزاء الآخر، إن ضعف هذا البناء هو الذي يتيح للآخر الهيمنة والإستعمار، ويجعل الذات في تبعية دائمة له. ولا يجوز أن نغفل أن بناء الذات لا يجوز الإقتصار فيه على استخدام المادة التي ترثها عن الأجداد أو تملكها راهنا. وإنما يحسن بل يجب استخدام المادة المفيدة عند الآخر، تلك التي هيأ له استخدامها أن يتفوق وينتصر ويبني الحضارة. لكن شريطة أن تظل مادة الآخر خاضعة لخصوصية الذات.. والخصوصية هنا قرينة الأصالة، فهي تتمثل من ناحية في العودة إلى الأصل أي الدين والقضاء على جميع ما يتعارض مع وحدة الأصل و حقائقه الأزلية، ويتمثل من ناحية ثانية في تحطيم السلطوية الإستبدادية وإقامة الحرية والعدالة والمساواة... وهكذا تبدو النهضة عنده ليست عملية اقتباس، وليست عملية تحرر، إنها استمرار تفتح ضمن التاريخ العربي الإسلامي بهدي من مبادئ "الإسلامية" واستمرار في تعميق الوعي أي وصل ما انقطع في ممارسة "الإسلامية" وسيرتها وليس الآخر إلا نموذجا تحريضيا. فماذا يعني الكواكبي ب"الإسلامية"؟
3-الكواكبي والتجديد:
أ- مفهوم "الإسلامية":
انطلاقا من نظرة الكواكبي إلى "الذات" و"الآخر" التي حاولنا تحليلها في الفصل السابق، سعى في ثنايا نقده للإستبداد وتحديد مكامن الداء في المجتمع العربي الإسلامي،إلى تقديم البديل الفكري والسياسي والاجتماعي بهدف القضاء على الإنحطاط من جهة، وتحقيق النهوض والقوة من جهة أخرى. وغاية ما كان يسعى إليه من وراء ذلك، إحياء عظمة الماضي بحيث ينسجم مع متطلبات العصور الحديثة. وهو إذ ينظر إلى عصر الإسلام الأوّل "المجيد" كأنه صورة لما ينبغي للعالم أن يكون عليه في الحاضر، فهو قد شارك- في هذه النظرة- رواد النهضة العربية نظرة التقديس للماضي والإستلهام من ينابيعه التي لا تجف أبدا..! مقتنعا بأن "التاريخ يعيد نفسه".
إن النظرية التي يصدر عنها الكواكبي لتحقيق الأهداف والغايات التي رسمها للمستقبل هي ما يسميها ب"الإسلامية" وهي: الإختيارات التي يتبناها المسلمون في مختلف شؤونهم الحيوية، والحلول التي يستنبطونها لمشكلاتهم الحياتية مع اعتبار مقتضيات الزمان، دون الإخلال بالقواعد العمومية التي شرعها أو ندب إليها الرسول(ص) لأن الكواكبي يفرق بين "الإسلام" و"الإسلامية" فالأول هو الدين والثانية هي نظام الحكم الذي يطبقه المسلمون في حياتهم.
وبناء على ذلك ينادي الكواكبي بفتح باب الإجتهاد من جديد الذي كان إغلاقه أكبر مصيبة حلت بالمسلمين، ويرى أن الإجتهاد يجب أن يختص به العلماء المقتدرون ولا يجوز بذله في غير باب "المعاملات" أما "العقائد"فيكفي أن تطهر مما علق بها من شوائب فقط. ويبقى باب الإجتهاد وبذل الجهد الفكري فيما يتعلق بمشكلات الحياة المتجددة مفتوحا أبدا بل واجبا تحتمه الحياة ومصلحة المسلمين لمجاراة روح العصر انطلاقا من قاعدة "تغير الأحكام بتغير الظروف"!؟ فرؤية الكواكبي هذه تنبثق من الأصل/القرآن وتنظر على أنه يبقى مفتوحا قابلا للتلاؤم مع واقع الحياة المستجدة.
ب- تجديد الكواكبي في الجانب السياسي:
أولى ملامح "الإسلامية" هي الجانب السياسي والإداري. ويعرف الكواكبي السياسة فيرى "أنها إدارة شؤون الأمة المشتركة ورعايتها بمقتضى التقيد بقانون موافق لرغائب أفراد المجتمع وتكون هذه الإدارة بالتعاون والرضا من الجميع حاكمين ومحكومين"، وقد قدم مفهوما للمساواة كما أقرتها الثورة الفرنسية..: أي مساواة أمام قانون واحد يسري على جميع المواطنين حكاما ومحكومين في "نعيم الحياة وشظفها" لا فرق بين غني وفقير، وضعيف وقوي، وأبناء مذهب ومذهب، وبالتالي تنحصر وظائف السلطة التنفيذية أي الحكومة في إدارة شؤون الأمة بمقتضى التقيد بهذا القانون الصادر "عن جمع منتخب من قبل الأمة". ويظهر على ما يبدو أن موقع الكواكبي الطبقي والإجتماعي بوصفه ينتمي إلى عائلة الأشراف بحلب قد ساهم إلى حد بعيد في تحديد رؤيته السياسية عندما قرر أن "الإسلامية""مؤسسة"على أصول الإدارة الديمقراطية"،أي العمومية والشورى الأرستقراطية، "شورى الأشراف" وهو ما يكرس النخبوية في المجتمع الذي يدعو إلى إقامته الكواكبي، مع العلم أن نصوص الإسلام الداعية إلى الشورى جاءت عامة إلى كافة أفراد الأمة الإسلامية بدون استثناء دون أن تحدد أي صنف من الناس يختص بإدارة شؤون المجتمع دون بقية الناس، بل إن النصوص المشهورة في هذا المجال تخالف تماما رؤية الكواكبي السياسية النخبوية كقوله تعالى: "وشاورهم في الأمر" أو قول الرسول﴿ صلى الله عليه و سلم﴾: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".
ثم يضيف الكواكبي أن لا إمكانية لنشوء الدولة المستقرة التي ترقى بأفرادها ما لم يتحول الحاكم إلى خادم مطيع يخضع للقانون بملء إرادته وتكون الرعية على وعي تام بسيرة حاكمها فتراقبه رقابة مشددة حتى لا يحيد عن الطريق السوي. ويمكننا أن نسأل الكواكبي هنا من أين لنا مثل هذه الرعية الواعية بدورها السياسي والفاعلة في مجريات الواقع ما دمت قد أحلت معظم أفراد هذه الرعية على التقاعد ليتركوا الأمر لأهل الحل والعقد المسمون عندك بالأشراف!؟
ويبدو أن الكواكبي كان مستلهما لرأي "منتسكيو" عندما ينبه إلى ضرورة فصل القضاء عن الحكومة والتفريق بين السلطات السياسية والدينية والتعليم مؤكدا على أن مثل هذه المبادئ السامية قد جسدت في حكومة الرسول صلى الله عليه و سلم والخلفاء الراشدين وبعض السلف كعمر بن عبد العزيز والمهتدي العباسي ونور الدين الشهيد...
وهكذا حاول الكواكبي "بمفاهيم إسلامية" تبرير تبني المؤسسات الغربية معتبرا ذلك التبني عودة إلى روح الإسلام لا إدخال شيء جديد عليه!؟، وقد جعلته ميولاته "الديمقراطية" يعتقد أن النظام البرلماني ليس سوى بعث لنظام الشورى الإسلامية على ما بينهما من فرق!!؟
ولم تتجاوز نظرته إلى الحكم الصالح الرشيد النظرة الدينية التقليدية التي تدعو الحاكم أن لا يحكم الهوى في حكم الناس وإنما عليه أن يحكم بالعدل.
فلم يحاول مثلا البحث في الطرق المناسبة والأجهزة المختصة القادرة على إجبار أي حاكم على الخضوع للقانون، كما لم يبحث في مصدر القوانين العادلة..!؟ بل يذهب إلى أبعد من ذلك حين يقرر في آخر كتابه "الطبائع" أن الإستبداد السياسي "لا ينبغي أن يقاوم بالعنف" وهو الذي كرس كل حياته في مقاومة الإستبداد!؟ محتفظا بتسمية الثورة "فتنة"!!؟؟
ج- تجديد الكواكبي في الجانب الإقتصادي والإجتماعي:
تقوم "الإسلامية" في وجهها الإقتصادي والإجتماعي على ما يسميه الكواكبي "بمعيشة الاشتراك العمومي" ومعناه: التعاون والإتحاد والتحابب والإتفاق.
"فالإسلامية" كما أسست حكومة ديمقراطية تقوم على الشورى والحرية، أسست أيضا أصول هذه المعيشة التي تهدف إلى تحقيق التساوي والتقارب في الحقوق والحالة المعيشية بين البشر، و تعمل ضد "الإستبداد المالي"بمعنى رأس المال.. حتى لا يصبح المال دولة بين الأغنياء فقط وحتى يستطيع فقراء الأمة اللحاق بأغنيائها.إن منع تراكم الثروات بأيدي أقلية يصبح ضرورة حضارية وأخلاقية، لأن تراكم الثروة يولد الإستبداد الداخلي و الإستعمار الخارجي.. كما أن تراكم الثروات بأيدي أقلية يضر بأخلاق الأفراد ذلك أنه توجد علاقة جدلية بين الغنى المفرط أو الفقر المدقع وانحطاط الأخلاق.
وبهذه النظرة العميقة يتجاوز الكواكبي ذلك النقد ذو المنزع الليبرالي الداعي للمساواة الحقوقية. والذي يأخذ على حكم الإستبداد تجاوزاته ومناقضاته للتشريعات والقوانين المرعية، منطلقة من احترام مجرد لهذه القوانين والتي لا تمثل في الواقع إلا مصالح تلك الفئة التي تسن تلك القوانين وتكرس الأعراف المناسبة لمصالحها الإجتماعية والإقتصادية، داعيا إلى ضمان فعلي لمصالح كافة شرائح المجتمع.
إن الإستبداد السياسي هو المسئول عن الظلم والقهر من جهة وعن التأخر الإقتصادي وعن الحيف الاجتماعي من جهة ثانية. أما "الإشتراك العمومي" فهو سر البقاء والتقدم لكل ما في الكون و"هو أعظم سر الكائنات". فهو طبيعي يتلاءم مع سنن الكون، وقوانين الطبيعة، ومن ثمة فإن الفردية المطلقة لا مكان لها في المجتمع الذي يدعو الكواكبي إلى إقامته، لأنها ضد نظام الكون وسنن الحياة. بالإضافة إلى أن الإشتراك العمومي أصبح حاجة ملحة في العصر الحديث وهو العمود الفقري لإنجاز الأعمال الكبرى التي لا تفي بها أعمال الأفراد كما أنه حجر الزاوية في "نجاح الأمم المتمدنة".
تنبع دعوة الكواكبي إلى "معيشة الإشتراك العمومي" من فلسفة قوامها أن ثروة المجتمع إنما هي "فيض" قد أودعه الله في الطبيعة، وبناء على ذلك فإن كل ما في هذه الطبيعة من ثروات وكنوز ظاهرة أو باطنة يجب أن تبقى عامة وأن يسود فيها قانون الإشتراك العمومي بين البشر العاملين في ترويض هذه الطبيعة وإخضاعها.
فالمال المستمد من الطبيعة لا يجب أن يملك.. وإذا جاز أن يختص بإنسان أو يدخل في حيازته فإن طاقة العمل الإنساني تكون هي السبب لهذه الحيازة وذلك الإختصاص، يقول الكواكبي في هذا المجال: "إن المال المستمد من الفيض الذي أودعه الله في الطبيعة ونواميسها... لا يملك إلا بعمل فيه أو في مقابله".
لكن هناك نوع من الثروة يجب أن تبقى عامة ومشتركة بين العاملين في المجتمع ولا يصح أن تملك أبدا وهي: "الأراضي والمعادن والأنهر، والسواحل، والقلاع والمعابد والأساطيل، والمعدات إلخ". مما هو لازم للجميع وتبقى للحكومة صفة الأمانة على هذه الأملاك.
والحاصل أن "الإشتراكية" التي يدعو إليها الكواكبي قائمة على دعامتين: أولهما الملكية العامة للثروة وتدخل في نطاقها جميع احتياجات البشر الضرورية لحياتهم سواء كانت مادية أو أدبية، وفي مقدمتها الأراضي الزراعية وكل ما في باطن الأرض من معادن وكنوز وهي "ملكا لعامة الأمة يستنبتها ويتمتع بخيراتها العاملون فيها استلهاما من الحديث المشهور "من أحيا أرضا مواتا فهي له".
وثانيهما: طاقة العمل الإنساني المبذولة في تنمية هذه الثروة العامة وتحصيل ثمراتها. وبناء على ذلك يصبح معيار إنسانية الإنسان في المجتمع الاشتراكي هو العمل.. فلا يكون الإنسان "إنسانا ما لم تكن له صنعة مفيدة تكفي معاشه باقتصاد لا تنقصه فتذله ولا تزيد عليه فتطغيه" فلا مكان في المجتمع الذي يدعو إلى إقامته الكواكبي للمتعطلين الذين يريدون العيش على حساب الآخرين "فمن لا يصلح لوظيفة أو لا يقوم بما يصلح له بل يريد أن يعيش كلا عليهم (أي العاملين) لا عن عجز طبيعي (يكون) حقيرا يستحق الموت لا الشفقة".
إن السعي في هذا السبيل لتطبيق "مبادئ الإشتراكية" هو مواصلة لتراث سابق، واستجابة لحاجات كثيرة بعضها كامن في طبيعة النفس العربية لأن "العرب أهدى الناس لأصول المعيشة الإشتراكية"..!؟ إن تحقيق هذا الطراز الرفيع من الشورى والديمقراطية والإشتراكية الإجتماعية يأتي نتيجة "لثقافة معينة" و تتويجا لمذهب إنساني أي نتيجة لتقويم معين للإنسان على مستواه الشخصي وعلى مستوى علاقته بالآخرين. لذلك يتوجب تخليص الإنسان من كل التوجهات المضادة للشورى والديمقراطية، وهذا ما يجعل "الإسلامية الثقافة" تقتضي الحكمة العقلية وعلوم الحياة، وحقوق الأمم، وطبائع الإجتماع والسياسة المدنية والتاريخ المفصل... ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول، وتعرف الإنسان ما هي حقوقه، وما هي واجباته، وهذا ما يجعل من الثقافة الصحيحة المستنيرة والعميقة ونشرها بين كل أفراد المجتمع ركيزة أساسية من ركائز "الإسلامية" وأس من أسسها.
د- مهام الحكومة "البديل" للرقي بالأمة:
إن التنوير الذي سيطر على ذهن الكواكبي، كان قد هيمن عليه السياسي، كما لاحظنا. لأن "السياسي" في وعي النهضة لم يكن شيئا متعاليا ولا تعبيرة مجردة لواقع مستقل، بل التشخيص المؤسسي لحالة المجتمع بل والحضارة الإسلامية المحتضرة.وهذا الوعي بأهمية السياسي في تحديد حالة المجتمع، جعل الكواكبي يعطي "الحكومة البديل" دورا رياديا في النهوض بالمجتمع، لذلك أوكل لها مهمة تربية الأمة والسير بها في طريق الرقي والإزدهار إذ بيدها وحدها رقي المجتمع أو انحطاطه..! فعلى الحكومة المنتظمة التي ترعى شؤون الأمة أن تتولى ملاحظة تربية أفراد الأمة والسهر على راحتهم، وهذه المهمة تبدأ منذ ما قبل الزواج "بسن قوانين النكاح وتوفير متطلبات الصحة العامة كبناء المستشفيات وإيجاد القابلات والأطباء وبناء دور الحضانة وتشييد المخابر لصناعة الأدوية... كما عليها أن تفتح المدارس والمكاتب وتشجع على المعرفة والتعليم بدءا بالتعليم الإبتدائي وجعله إجباريا لكافة أفراد المجتمع، بلوغا إلى أعلى المراتب والدرجات، ثم تمهد المسارح والملاعب وتسهل الإجتماعات وتحمي المنتديات، وتنشئ المكتبات والمتاحف لحماية آثار الأمة وتراثها وتيسر الأعمال المفيدة وتشجع على كل خلق وابتكار.
لقد عاب الكواكبي على الإدارة المستبدة كبتها للحريات لذلك فلابد "للحكومة البديل" أن ترعى الحرية وتجعلها تقليدا من تقاليدها. والكواكبي إذ يورد مفهوم الحرية يورده بمثابة النقيض الأصلي لمفهوم الإستبداد، فعرفها (الحرية) بأن:"يكون الإنسان مختارا في قوله وفي فعله لا يعترضه مانع ظالم". وتكون السلطة منحصرة في القانون وذلك يعني أن ليس للحكومة الحق في إيقاع أي عمل إكراهي بدون الوسائط القانونية. بحيث أن الإنسان لا يخشى هضيمة في ذاته ولا في سائر حقوقه ولا يحكم عليه بشيء لا تقتضيه قوانين البلاد المتقررة لدى المجالس، وهذا التعريف هو على غرار ما عرف به "منتسكيو" الحرية حين قال بأنها: "الحق في عمل كل ما تسمح به القوانين".
وبرّر الكواكبي تبنيه للحرية مثلما فعل معاصروه من "السلفيين" بأنها مستمدة من الشريعة الإسلامية بل هي روح الدين على حد تعبيره.!!؟؟
فالحرية خاطر غريزي في النفوس البشرية. فيها نماء القوى الإنسانية من تفكير وقول وعمل، وبها تنطلق المواهب العقلية متسابقة في ميدان الإبتكار والتدقيق، فلا يحق لها أن تسام بقيد من القيود، وقد تنبه الكواكبي إلى أن نهج الأوروبيين في البحث العلمي كان من أسباب تقدمهم وتطور العلوم عندهم، فهم يعتمدون حرية البحث والتفكير ويدققون ويبتكرون في المعارف ويطمحون دائما إلى تخطي ذواتهم وما وصل إليه أسلافهم.وبناء على ذلك فان افتقاد الحرية في أي مجتمع بشري معناه انتشار التقاعس فيه عن كل " صعب و ميسور"..
إن الحكومة العادلة الحرة تفعل في أخلاق البشر ما تفعله العناية في إنماء الشجر، فالحاكم العادل هو بمثابة البستاني الذي يرعى أشجار بستانه وأزهاره ليل نهار حتى تؤتي أكلها على أحسن وجه ممكن... للسعة والفقر وانتظام المعيشة دخل كبير في تيسير التربية أو تعسيرها، والحكومة "البديل" كفيلة بتيسير كل الظروف الملائمة للتربية الصحيحة وتذليل كل العقبات حتى يتمكن أبناؤها من الرقي المادي والروحي.. فهي في سعي دائب ليرقى ابنها في جسمه وصحته ويزداد علمه وماله ويتصف بمكارم الأخلاق والخصال السامقة. ويرقى في صفاء روحه إلى مرتبة الملائكة.وهكذا يعيش الإنسان في ظل العدالة والحرية نشيطا على العمل بياض نهاره، وعلى الفكر سواد ليله لأن مناخ الحرية والعدالة يفجر الطاقات العديدة الكامنة في كل إنسان ويمكنه من إبراز فعاليته الإجتماعية وصناعة التاريخ وبناء المستقبل.
"وللحكومة البديل" بالإضافة إلى ذلك، مهمة التوسيع في الزراعة والصناعة والتجارة... كي لا تهلك الأمة بالحاجة لغيرها أو تضعف بالفقر، ومن هنا يشدد الكواكبي على أهمية الثروة العمومية خصوصا فيما يتعلق بدورها الحاسم في حفظ الإستقلال والقضاء على الفقر الذي يمثل رمزا للشر حتى قال الرسول صلى الله عليه و سلم ذات مرة " لو كان الفقر رجلا لقتلته ..لأنه رائد كل نحس. فمنه جهلنا ومنه فساد أخلاقنا".. كما تكتسي الثروة العمومية أهمية بالغة في المجتمعات الحديثة خاصة تلك التي تخوض صراعا ضد المستعمرين، إذ أصبحت الثروة العامة سلاحا رئيسيا في هذه الصراعات ولا يمكن كسب أي معركة بدون تأمين هذا "السلاح الفتاك".
وهكذا يصبح من أوكد مهمات الحكومة البديل تحرير البلاد من الإستعمار الداخلي المتمثل خاصة في الإستبداد السياسي والإجتماعي (البغي الاجتماعي) والإستعمار الخارجي والمتمثل في الهيمنة الغربية، بصورة مباشرة أو غير مباشرة والمضي بالبلاد والعباد في طريق الرقي والإزدهار والقوة.
و الحاصل: نلاحظ أن الكواكبي قد أدرك مثلما أدرك معاصروه من رجال الإصلاح أن المجتمع العربي الإسلامي قد أصبح بحاجة أكيدة إلى تغيير جذري في هياكله السياسية والإجتماعية و الإقتصادية و الثقافية... وجاء هذا الوعي وهذا الإدراك نتيجة مباشرة لغزو بونابرت لمصر عام 1798م، واطلاع بعض المثقفين العرب على "فلسفة الأنوار" التي مهدت لثورة 1789م.
ولقد تميز الكواكبي بحرص شديد على ضرب المؤسسة السياسية واعتبرها رأس كل شر أصاب العرب بسبب الإستبداد الذي كان يمارسه الحكام على المحكومين منذ عصر الإنحطاط. لهذا نجده يكثف من هجمته العنيفة ونقده الحاد لهذه المؤسسة، ويطالب بإحداث حكومة ديمقراطية حتى تتمكن من رعاية مصالح العرب على أحسن وجه.
ولعله قد أفلح كثيرا في إقناعنا بفساد الإدارة التركية وبخطورة المؤسسة السياسية في التأثير على كل جانب من جوانب الحياة في المجتمع‘ وكنا ننتظر أن يقدم لنا المؤلف بديلا فكريا وحضاريا واضحا للمجتمع المستقبلي الذي ينشده، لكنه لم يفعل، واكتفى بطرح الأسئلة العامة التي لا تسمن ولا تغني من جوع. بالإضافة إلى كونه لم يقدم لنا طريقة مقنعة وواضحة المعالم في كيفية تثوير المجتمع العربي الذي يرزح تحت كل مظاهر التخلف الحضاري نتيجة الإستبداد الذي يمارسه الساسة على الرعية..! ودفعه نحو النهضة الفكرية والحضارية التي ينشدها.
لقد طغت على المؤلف في بعض الأحيان، مفاهيم ومصطلحات هي من مخلفات عهود الإنحطاط في التاريخ العربي- الإسلامي، فحدّت كثيرا من حرية تفكيره واستنباط الحلول الملائمة لمشكلات المجتمع المتنوعة، كمفهوم "أهل الحل والعقد" و"أشراف الأمة" الذين يقررون مصير الناس في جميع مناحي الحياة. "والفتنة" بمعناها السلبي... وقد غاب عنه أن مثل هذه المفاهيم هي التي ساهمت بقسط كبير في تكريس الإستبداد السياسي والإنحطاط الحضاري والتخلف. ولعل مثل هذه المفاهيم المغلوطة هي التي زادت في إرباك رواد النهضة العربية وحدّت من فاعليتهم التاريخية في تغيير المجتمع وجعلت العرب يعيشون في حلقة مفرغة، ديدنهم "عود على بدء"، منذ "عصر النهضة" إلى اليوم.
فلئن افلح الكواكبي في صنع نسق سياسي – فكري حضاري، فإن هذا النسق الفكري بقي محدودا في نجاعته الحضارية وإحداث النهضة، بسبب الهيمنة الكبيرة التي بقي يمارسها التراث العربي الإسلامي على الحلول التي استنبطها الكواكبي في معالجة مشكلات المجتمع العربي بالإضافة إلى الهيمنة الحضارية التي أصبح يمارسها الفكر الغربي الحديث على بعض الحلول التي قدمها دون مراعاة خصوصية كل مجتمع ومتطلباته الحضارية.
فهل من سبيل إلى حداثة إسلامية جديدة تنقذ أمتنا العربية و الإسلامية من التخلف الحضاري و التبعية و الإستعمار و ترجع لها القدرة على الفعل التاريخي و التقدم الحضاري و قيادة مسيرة الشعوب نحو الخير و الأمن و السلام؟
http://www.islamsyria.com/portal/uploads/CMS/maktabah/alkwakbe.pdf
ردحذف