ذكريات زمن مضى ..!!
أقصوصة






محمد سالم بن عمر


محمد سالم بن عمر
Mohamedsalembenamor21@yahoo.fr
http:islam3mille.blogspot.com
86، حي الليمون ، منزل بورقيبة 7050 / ص.ب :260 ولاية بنزرت – الجمهورية التونسية .
الهاتف : 23038163 (00216)
محمد سالم بن عمر، كاتب و ناقد تونسي ، عضو باتحاد الكتاب التونسيين .
أصيل سيدي بوعلي ولاية سوسة، متزوج و له شيماء و نصير الله.
متحصل على شهادة الأستاذية في التنشيط الثقافي منذ 1992، وقد عمل مديرا لدور الثقافة بتونس.
له مساهمات عديدة في النقد و الإبداع و المقال الفكري\ الحضاري...
صدر له كتاب:" اللسان العربي و تحديات التخلف الحضاري في الوطن العربي الإسلامي عام 1995"
كما صدر له كتاب : " نقد الإستبداد الشرقي عند الكواكبي و أثر التنوير فيه عام 2009 "

و قد نشرت له جل الصحف و المجلات الوطنية مقالات فكرية و نقدية و قصص قصيرة وقصائد .. كما نشرت له بعض المجلات و الصحف العربية .. مقالات فكرية وحضارية..
له مخطوطات عديدة أهمها :
ذكريات زمن مضى (رواية) * نحو إعادة تشكيل الفكر العربي الإسلامي في العصر الحديث ﴿مقالات فكرية / حضارية﴾ ...

استيقظ عبد الحميد قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود على غير عادته.. تململ عن يمين و شمال ..ثم شخص من النافذة و جعل ينقل طرفه الشارد فيما يحيط به و حاول أن يعود إلى النوم ، لكن دون جدوى ..تساءل بينه و بين نفسه : ما الذي أيقظني مع هذه الساعة المبكرة ؟ثم تذكر فجأة : آه نسيت أن أحفظ الآيات التي كلفني بحفظها المؤدب لهذا اليوم ... يا إلهي ما الذي أصابني ؟ هل هرمت ذاكرتي بعد ؟!
و طفق يحدث نفسه و يقول : " لا يا عبد الحميد..إن حافظتك قوية و إلا لما فزت بثقة المؤدب .. ؟! لكن لعن الله الإرهاق ... لقد قمت بعمل عظيم بالأمس .. أنسيت أنك بقيت تجمع الزيتون مع أمك كامل اليوم .." ؟!
و عاد الهدوء إلى نفسه و سرى الإرتياح في كامل بدنه .. فاستعاذ من الشيطان ، واستجمع قوته لينهض من فراشه الدافئ . ملأ الإبريق ماء ليتوضأ للصلاة و هم بتشمير ساعديه ،إذ سمع طرقا خفيفا على الباب . فتساءل : " من يكون الطارق يا ترى ؟" و لم ينتظر انتظاره حتى سمع صوتا جهوريا يدعوه قائلا : "هيا يا عبد الحميد .. ألم تتهيأ بعد لنذهب إلى المسجد ؟! فرد عبد الحميد قائلا : "أهلا .. رضا.. هل حان وقت الصلاة بعد ؟!.
فرد رضا بصوت فيه كثيرا من التعجب :" يظهر أنك نسيت .. ، لا بأس ..سنذهب قبل صلاة الفجر ..لنحفظ معا الآيات التي كلفنا بحفظها المؤدب بالأمس .. ؟!
فقال عبد الحميد معتذرا :- "العفو يا رضا .. بعض الدقائق ..لأخرج معك .."
الليل لا يزال يلف بكلاكله أرجاء القرية الساحلية .. صمت رهيب يخيم على الشوارع و الأنهج الضيقة .. يخترقه من حين لآخر عواء الكلاب و صياح الديكة .. و نقيق الضفادع .. خرج عبد الحميد ملتفا في سترته .. و أخذ يسير جنبا إلى جنب مع رضا و أخذا يشقان شوارع القرية .. ، الرذاذ كان يتساقط ..أخذا الطيفان يهرولان حتى بلغا المسجد..سلما الإثنان على العم وناس المكلف بتنظيف المسجد ..ثم نزعا أحذيتها و دخلا و لم يفترقا إلا عند بداية بزوغ الشمس .




لا أعرف بالضبط ما الذي كان يشدني إلى عبد الحميد..،إبتدأت علاقتنا بتنافس شديد على حفظ القرآن .. كنت أغبطه على العناية التي يوليها له المؤدب دون سائر أقرانه .. أجل كان ما يتمتع به عبد الحميد من قدرة عجيبة على الحفظ و النطق السليم.. خليقا بأن يجلب له حب المؤدب و احترام أقرانه و غيرة البعض منهم ..، و ليس من شك في أنه كان يعلم كل ذلك و لكنه لا يبدي تجاهه أي اهتمام .. كان همه منصبا على طلب العلم .. لا غير ، و تحسين زاده المعرفي ..وهو إلى ذلك يعرف حق المعرفة أن الإهتمام بمثل هذه الأشياء مضيعة للوقت و صارفا له عن الهدف الذي رسمه لنفسه .. :" أن يصبح كاتبا يساعد بني جلدته على تلمس الحقيقة و بلوغ أعلى القمم .. "
إن أراء الناس لا تكاد تسمو عن الخرافات و المعتقدات الساذجة..، و ليس من شك في أنه رأى بأم عينيه كيف يتقاعس بعض أقرانه في المدرسة عن المذاكرة ثم يذهبون ليلة الإمتحان إلى مقام الولي الصالح بجهتهم ، يتضرعون له كي ينقذهم من الرسوب . كان ينظر إلى كل هؤلاء بعين التهكم و الإزدراء و الإحتقار و لكنه لا يجاهر بذلك ، إنه يعرف خطأ مسعى هؤلاء و سذاجتهم و يدرك ذلك كله جيدا و لكنه فضل الصمت ، إن جل سكان القرية، برجالها و نسائها .. و أطفالها يلجئون إلى مقام الولي في أوقات الشدة يلتمسون مساعدة و يطلبون مخرجا في ذل و مسكنه ، و مهما يكن من أمر فليس الوقت مناسبا للبوح بما يختلج في صدره من إنكار لهذه الحماقات الجماعية .
و لكن هذا لا يعني أنه لم لأمه بما يراه في شأن استنجاد الناس بالولي الصالح و خنوعهم لصنوف الدهر تصنع بهم ما تشاء ، و قد حذرته أمه مرارا من الإفشاء بمثل هذا الرأي الذي ينضح ردة عن تقاليد أهل القرية و معتقداتهم . و لعل هذا ما جعله برما بكل شيء حوله ، ينظر بعين الإرتياب لكل ما يقع في القرية من طقوس و ما يشاع من أراء ، و لعل برمه هذا هو الذي دفعه إلى مزيد التحصيل و الكرع من العلم أصنافا و قنع بلغة الصمت حتى يحين أوان الكلام .




خيم الظلام على القرية فأوحى بانطواء يوم آخر من عمر الزمان و وفاة يوم من حياتي و حياة الأحياء..
أخذت أتفرس بعض الكتب مفكرا بفضاعة تواصل الليل و النهار.. و حاولت التغلب على هذا الشعور بالإرتماء على سريري ، لكنني تصورته نعشا يلتهمني إلتهاما ،انتفضت كالمعتوه !غير أني عدت إلى وعيي بعد أن تيقنت من تفاهة تفكيري...
و أخذت كتابا شدتني فيه العبارة التالية : "الإهداء إلى أبي رحمه الله ". و عاد لي الشعور الغريب ، و تساءلت في نفسي : "كم عاش هذا الأب ؟ و ماذا ترك ؟
و هل صنع في حياته شيئا يذكر ؟ أترك إبنا ليخلد اسمه بهذا الإهداء ؟! " و تذكرت جدي رحمه الله ، لقد عاش و مات و ما بقي منه غير بعض الذكريات لا تزال عالقة بذهني .. و فجأة رن منبه الساعة كأنه يحذرني و يذكرني بسباقي مع الزمن .. فالعقارب تجري و لا تلتفت إلى النائمين .. و الوقت يمر معلنا قدوم الصباح ..
" صباح الخير" التفت نحو الصوت و أنا أقول : " صباح الخير "، إنه أحد عمال البلدية شرع في تنظيف الشوارع مبكرا وهي عادة تعود عليها منذ زمن بعيد .. لا شك أنه يشعر بالإرتياح لأنه يعمل لصالح الغير و يريح المواطن من جميع رواسب الأمس .
و قبل أن يغادر المكان قال لي : " لماذا أنت هنا ؟؟! فقلت له أنا لست هنا.. بل هناك ... هناك..

ارتحل عني عبد الحميد إلى العاصمة لمواصلة تعلمه الجامعي ، كانت رسائله تصلني تباعا ..، وصلتني منه رسالة يقول فيها : أخي و صديقي ، تحية صادقة ،لم أجد من أفشي له بمكنونات نفسي غيرك ، منذ مدة أخذ شعوري بالغربة يزداد شيئا فشيئا ... أسئلة عديدة أخذت تواجهني أينما ذهبت ... من أنا و ماذا أريد ؟! قد تعجب مني و يحق لك أن تعجب ، أجل لقد أمسيت أشك في كل شيء . لقد أصبح يساورني شعور بالقلق و التردد و الحيرة ...".
و تساءلت بيني و بين نفسي : " أحين جد الجد أصبحت يا عبد الحميد مترددا مضطربا حائرا لا تعرف أي وجهة تسلك ؟!
عرفت عبد الحميد لا يعترف بالعجز أو المستحيل ، يثق في قدراته إلى حد الغرور ، يردد باستمرار .. " يوجد لكل مشكلة حل ، نحن الذين نوهم أنفسنا بالعجز فنعجز ؟!"
كان يشق طريقه بثبات عجيب ، هو الوحيد بين أترابه الذي ارتقى إلى الجامعة دون رسوب . كل من في القرية كان يشهد له بالتفوق و الذكاء .
" أسباب التخلف".. " الشرق و الغرب".. " حركة الإصلاح و الحضارة الغربية "، " طريق النهضة ".. قضايا شغلت ذهن عبد الحميد منذ كان تلميذا يافعا،كان قولي له : "عش كما يعيش سائر الناس "خليقا بأن يستفزه و يغضبه، فأبتسم له و أواسيه قائلا : "إن اهتمامك بهذه القضايا لن يجديك نفعا ... خالط الناس و ستقتنع أن شعبنا لم يبلغ سن الرشد بعد ، إنك كمن يريد إحياء الموتى أو الحرث في البحر .." ؟!.
فيرد علي بلهجة لا تخلو من عتاب و تأنيب : " الحمد لله أن لم يكن الناس مثلك و إلا لحقت بنا الطامة الكبرى!"
كنت أغبطه على صبره و قوة شكيمته ، كلما حاولنا صرفه عن هذا الطريق الوعر ازداد إصرارا و عنادا ..، و يهز عبد الحميد رأسه حيرة بعد إطراق و يقول بلهجة جدية : "إن شعبنا شعب عظيم، و لكننا فرطنا فيه و تركناه يسير على غير هدى.
كنا نعجب من سرعة بديهته واطلاعه الواسع على التاريخ و إلمامه بمجريات الأحداث في العالم .كانت له قدرة عجيبة على تغيير مجرى أحاديثنا ، يزرع الأمل أين ذهب ،بل يحول اليأس إلى أمل .. و يردد دوما : ‹‹ إن مصاعب الحياة و مشاقها تصنع الرجال ›› مؤكدا : ‹‹ أن اليأس يعني الموت وليس أمام القانطين إلا الموت ، يجب أن نأمل لأن الأمل يعني الحياة ... ››! أسمعنا يوما قصيدة يقول فيها مخاطبا فلسطين: ‹‹
فـــلسطــــــــــــــــــين
أنت جرح ينزف من جسدي..!
أنت قطعة من كبدي ..!
فلسطين الوفاء
يا أرض العروبة و السلام..
ابعثي لكل بطل مقدام ،
بفرح الأطفال و الأحلام ..!
قولي له : ‹‹القدس عروبتنا
و ديننا الإسلام .. !››
قولي له : ‹‹ أغنية خضراء
بدون كلام .. !››.
و أعود فأتذكر رسالته الأخيرة و ما تطفح به من قلق و حيرة ، فيتملكني الهلع على ما آل إليه حاله من تذبذب و ارتباك .. و عدت إلى المنزل و أنا على أسوإ حال ..، و لم أهنأ بخروجي إلى الغابة على غير عادتي ، فرأسي كانت تغلي بأسئلة لا نهاية لها حتى أحسست بدوار و كأن عاصفة هائلة تعبث بي في صحراء قاحلة . و تهالكت على أريكة اعترضتني، ثم كتبت له رسالة أقول له فيها : ‹‹ أخي عبد الحميد ، صحيح أني لم أعد أفهمك .. لكنني أدرك جيدا أنك أقوى من الحيرة و القلق.. إن العمل لفائدة هذا الشعب حري أن يبعدك عن كل حيرة و ارتباك ››.
‹‹إن طريق الحياة سكين حادة و كل تذبذب كفيل بإحداث الجروح البليغة المؤدية إلى الموت ››.













كان لي صديق، استأثرت به النشوة أياما، ثم مضت حماسته تفتر و نشوته تخبو، بيد انه لم ينكص على عاقبيه و بقي به شئ مما كان ، أقصده كلما ألم بي كرب و اشتد علي حزن ، أطلب السلوى بحكايته التي يرويها و مغامراته التي يتقن صياغتها في كلام مشوق و حديث منمق، حالما رآني قادما إليه اهتز صدره فرحا و قال بصوت ينم عن السرور:
أين أنت يا رجل !؟ هل نسيت عشرتنا بهذه السرعة ؟!
ثم استدرك قائلا: ‹‹أعلم أن مشاغل الحياة كثيرة ، لعن الله هذه الدنيا التي جعلتنا نجري وراء لقمة العيش ليل نهار دون أن ننال مبتغانا، الحياة صعبت وقل راكبها و فرقت الشمل بين الأصحاب و الخلان ›› . وطافت بالرجل الذكريات اللذيذة فعاوده الحنين إلي صفو الحياة و جمالها.ثم ما لبث أن تذكر شيئا ، فأشرق وجهه بابتسامة لطيفة و راح يدندن بصوت منخفض : ‹‹ بالله أخبرني ، كيف حال عبد الحميد ؟ألا يزال على عناده القديم ؟! ياله من فتى ، كم نصحته أن يكرع من الحياة صنوفا و يتمتع بطيباتها ، فالعمر قصير و لا يحتمل التأخير. ›› فحدجته بنظرة ذات معنى و قلت له بأمل و رجاء : ‹‹ لا تعكر اللقاء ، و دع عبد الحميد و شأنه، فلم يطلب من أحد أن يخوض معه غمار الحياة ، ألا يحق له أن يختار طريقه بنفسه ، فهو ليس بحاجة لمن يوجهه ››.
فضحك صاحبي ضحكة عالية ذات معنى ، و قال مهدئا من غضبي : ‹‹ لا بأس لا فائدة من النقاش الآن ! و لكنني سأقولها دائما: ‹‹ السياسة في بلادنا خربت بيوتا كثيرة و يتمت أطفالا و أهرقت طاقات ، فلماذا لا تدعونها و شأنها ؟! ›› .
ثم أمر بإحضار الشاي، و تهالك علي أريكة و وثيرة و جلست قربه ثم بدأ في ثرثرته المعهودة و قال بحماسة و فخار: ‹‹كنت أهوى البحر و اركب في سبيل بلوغه الأهوال و الأخطار.. لذ " لقريبع" ، صديق العمر الذهاب معي إلي البحر ، وقد اشتد الحر و ذهب الريح و القر، الصائفة اشتدت حرارتها و الأجساد قد تعرت، و السواعد قد نشطت و الغرف قد اقتضت و قبلت .. و النفوس لمرماها طمعت.

أراد " قريبع" في أيام صباه ـ و قد غرم غرما بساعده، حتى اشتد بلاؤه ـ أن يجد لنفسه مأوى يرفع به عن النفس و يذهب الحر و القلق فركب سيارة استأجرها و ركبت معه ، ووصلنا البحر فطالعنا كل جمال و كمال ... نسيمات عليلة اعترضتنا و تملقتنا... و طيور في الفضاء سابحة و لرب السماء شاكرة ..السماء زرقاء صافية و النجوم آفلة بعدما قضت الليل ساهرة و علي راحة الإنسان عاملة... البحر ليس له حدود والماء لا يعرف له ركود. و السماء تتسع منذ عهود ... فسبحنا من وضعها بغير عمد و أقامها بغير قد، فأعانت البحر على الجزر و المد.
نظرت أمامي فإذا السماء و الأرض مطبقتان كانهما منذ القديم متعاشرتان و لحماية نفسيهما متعاونتان.. و حملقت فإذا الماء هناك أزرق و هنا أبيض فعجبت لهذه الحال. و علمت فيما بعد... أن أبصارنا تخدعنا و لعقولنا المرجع و المنقلب.
حملنا أمتعتنا عل الشاطئ و بالقرب من أمواج البحر فرشنا و تمددنا ننعم النظر في النهود و نتأمل الخدود التي أقبلت من كل الجهات و الحدود... فبدأ الحمام لمرآنا يسرح و لنا يمرح . فعشقت ذات الوجنات الحمراء والأغصان البيضاء و القوام الممشوق و الحبال الطويلة السود، فشكرت الشمس علي تركها اللحم تحت أشعتها ينعش و العيون بالجمال تنعم و تمنيتها أكلة شهية قرب أمواج البحر. و تمنى صاحبي أخرى على الفراش الوثير تمددت و على ظهرها و بطنها تقلبت كتقلب السمك في الوديان و البحار .
و أقسم صاحبي أنه لم ير مثلها أكلة في عز الصيف فغمز صاحبي و غمزت و في بيت مهجور تم ما تم و أفرغنا الجيوب من النقود .. و تمنيت و تمني صاحبي لو هدمت السدود التي سطرت بالحدود و القلم الممدود حتى ننعم بدون عقود .. وقلت لـ " قريبع ": ‹‹هذا يومنا فلا نفرط فيه و قصدنا مجلس العم طاهر و قد جعله صاحبه لسراة القوم مقصدا ليشربوا النبيذ و يرقصوا حتى الثمالة . و قبل أن ندخل المجلس لمحنا العم الشاذلي بوصيد دكانه جالسا و علي سحنته هم و غم فخلنا أن ماله ذهب و بقي في نكد... فصارحته بذلك . رفع رأسه حيرة و تنهد من الأعماق و قال و هو يتمالك أنفاسه المضطربة : ‹‹ لقد ذهبت الحرة بعد أن تركت في نفسي غمة ››. فقلت مواسيا:‹‹لا عليك فالنساء في الوجود كثرة و صيدهن أيسر من شرب الخمرة ، فالنفس له اشتاقت و لنبيذه تشوفت و ارتاحت فانفرجت أسارير وجهه و تنهد مسرورا و قام و أغلق الدكان و انصرفنا ...!
و لما اقتربنا من المجلس رأينا الليل قد ذهب ظلامه، و تلألأت نجومه و أنواره و تصاعد في الجو البخور من القدور ، و تعالت الأصوات و عم الضجيج و الصياح و انتابني شك في المجلس المقصود ، فهرول العم الشاذلي و هرولنا خلفه و تسابقنا للجنان : خدر الأكواب الموضوعة ، و النمارق المصفوفة ، و الزرابي المبثوثة و الحور العين .. و اللحم المشوي.. رائحة زكية بعطر و زنود ونهود بيض نقية... و...
و دخلنا و دخل العم الشاذلي ... و رفع على الأعناق .. فالجميع صحبه و بشذى أقاصيص غرامه و مغامراته تغنوا و ترنحوا .. قال العم الشاذلي مسلما :‹‹ حياكم الله معشر الشباب ››
و رد الجميع بحماس فياض: ‹‹حييت يا عم ››.!
ثم أخذ العم الشاذلي مجلسه و جلسنا . و عاد العم يقول هاتفا بصوته الأجش : ‹‹ إلي أيتها المليحة ، هات الكؤوس التي تحيي النفوس و اسقي أهل الفؤوس ››∙
هرولت أحدهن و قدمت الشراب في الكؤوس فاشرأبت إليها الأعناق و النفوس، فتسلمها العم الشاذلي و أجلس المرأة أمامه و أشربها النبيذ لتسقيه من خمرها اللذيذ ثم ارتمى عليها لتبادل الحلو و المر، ثم مد الكأس و صب الخمر على الرأس، فاشتد الغيظ بالفتاة و نهرته، و قربت إليها ‹‹قريبع›› و قد كان يتفحش مع إحداهن فغضب العم الشاذلي و امتلأ حنقا و قال بحدة و هو يتميز من الغيظ : ‹‹لأعبثن بالمجلس يا قحاب ›› فقالت المرأة تستفزه :‹‹دع لي هذا الشاب يا عم ، فساعده بقوة الشباب معمر ، و أنت فقدتك النساء صلابته، فتهرأ ..!
فازداد غضبه ، و أمتلأ صدره حنقا و قال بصوت رفيع : ‹‹هاكم المال يا معشر القحاب .. و أخذت الدنانير تتناثر عن يمين و شمال .. و كثر الصخب و اللغط .. و تسابقت النسوة الحاضرات لجمع المال و العم الشاذلي واقف يضحك و يقهقه... رن الجرس ليعلن انتصاف الليل ، فترنحت الرؤوس ، و ذابت القلوب ..
ثم خرج العم الشاذلي و خرجنا ...!






"إن مجتمعا لا تلبى فيه الغرائز بصورة طبيعية هو مجتمع متخلف " .. هذا ما كان يردده عبد الحميد بلهجة فيها كثير من الجد و الحرارة.
" إن المجتمع الذي تكبت فيه الحرارة و يلبي فيه أفراده غرائزهم بصورة ملتوية يسهل انبهاره بتقاليد و قيم مجتمع آخر و يفقد الثقة بتقليده و قيمه ، فيتلاشى بذلك الإنسجام الداخلي للمجتمع و يفقد القدرة الذاتية على النهضة و بناء الحضارة .."!
تذكرت كل هذا لما كنت راجعا من عند صديق المغامرات. استوقفني موزع البريد فجأة و سلمني رسالة ، قلبت الرسالة بسرعة ، كدت أطير من الفرحة عندما تبينت على الظرف خط عبد الحميد .. رجعت إلى المنزل و أنا أسابق الزمن ، فتحت الظرف ، حجم الرسالة على غير ما عودني عليه عبد الحميد ، و تساءلت بيني و بين نفسي " هل تراه وجد حلا لشكه و حيرته !؟"
" لن أحدثك هذه المرة عن نفسي ، سأسرد عليك قصة عجوز عرفته في المدة الأخيرة .. قال محدثي : " كنت أسكن بحي شعبي في إحدى ضواحي العاصمة ، سعيت و أنا في مقتبل العمر إلى تحسين وضعي الإجتماعي ،سافرت كثيرا إلى خارج حدود الوطن ، حتى جمعت رأس مال محترم ، بعد سنوات من الغربة و التشرد ذقت فيها العذاب ألوانا .. و عرفت الحرمان و الخصاصة ، رجعت بعدها إلى بلادي ،و كونت مشروعا تجاريا ناجحا .. و انتشلت عائلتي كبيرة العدد من الفقر ، حتى أحسست أن الزمن بدأ يهدني هدا و يقتطع مني كل يوم جزءا ، فسارعت و بحثت عن فتاة تكون رفيقة دربي فيما بقي لي من أيام لتشاركني أفراحي و أتراحي و تعينني على تحمل أعباء الحياة .
رأيتها تتبختر ذات يوم في إحدى شوارع المدينة ، كانت ممشوقة القوام ،رقيقة الملامح ،صافية العينين ، حنونا ،فخفق قلبي لها ،و أحسست أني مكبل بقيود جمالها و أنوثتها ، و سألت عنها ، فقيل لي إنها أجمل فتاة في الحي الذي تسكنه .. فتزوجتها . "
" لقد أصبحت تسيطر على أحاسيسي بجمالها الفتان ، و تملكني شعور بعجزي عن حماية عن حماية هذا الجمال من عيون الذئاب التي تلتهمه التهاما بشراهة كلما خرجت من المنزل و تشرئب لها الأعناق ، كلما سارت في الشارع ، و تحول عجزي إلى غيرة قاتلة ..!
" أصبحت أغير عليها من كل شيء ، من كل شيء .."
و تنهد الشيخ من الأعماق كأن قلبه يحترق أسفا و حزنا .. ثم قال : "و في هذا الجو الغريب ولدت ابنتي رابعة .." ثم يصمت الشيخ برهة و يحدجني بنظرة حالمة ثم يقول بصوت منخفض : " كنت أنتظر أن يخفف مقدمها حدة توتر العلاقة بيني و بين أمها " و قطب الشيخ في تقزز و ندت عنه الكلمات بلا وعي .. و في ازدراء شديد ..: " و لكن شيئا من ذلك لم يحدث "
و تمتم في ارتباك وهو لا يدري ماذا يقول : " تحولت غيرتي إلى هوس مزمن لم أستطع منه فكاكا ..!؟ "
"كنت أتقدم نحو الشيخوخة و العجز و كنت أرى زوجتي في غاية الجمال و الأناقة و الحيوية، و صرت أكره هذا الجمال و صاحبته و أحقد عليها كثيرا . و تحول حقدي إلى عنف ، فكلما حاولت زوجتي الإقتراب مني زجرتها و عنفتها واعتقدت أنها تخدعني ،حتى أمست حياتنا جحيما لا يطاق .. و انتهت بالطلاق .ثم يصمت الشيخ برهة و يواصل قائلا :" يبدو أن شعري بعجزي و بخيانة مطلقتي بقي يشغل بالي .. كنت أنتظر أن تتغير حالتي .. و يفارقني هذا الشعور الغريب بعد أن بقيت ابنتي رابعة في بيتي و تحت رعايتي .. " على أن شعوري نحو أمها لم يتغير بل كنت أتسقط أخبارها من حين لآخر .. حتى بلغني أنه سافرت للعمل خارج حدود الوطن ، و يسعل الشيخ حتى خلت أن روحه .. ستصعد إلى بارئها .. ثم يواصل حديثه وهو يرتجف كمن به حمى ..: " رجعت يوما من العمل ، كانت رابعة نائمة كملاك ، دخلت غرفتها ، و بسرعة غمرت ذهني الخواطر المرعبة .. و تصورتها أمها .. و في تلك اللحظة تملكني حقد كبير على الجمال و صاحبته ، و بدون أن أشعر وجدتني أخمد أنفاسها و أنا أصيح بصوت كالرعد : " لا .. لا يمكن أن تعيشي أكثر .. "
ألقيت بالرسالة على السرير و أنا أرتعد من شدة الغيظ . و تساءلت بيني و بين نفسي : " ماذا يعني عبد الحميد بسرد هذه القصة المحمومة وقد كنت أنتظر منه أن يحدثني عن حاله ؟ "




"لا تظنوا بي أيها السادة ظن السوء، فتعتقدون أني أصبحت بوقا لعبد الحميد «
" أنا لست مسئولا عن مشاكل العالم، أنا فقط أبحث عن الخلاص لنفسي " " لقد جف نبعي ، بي ظمأ كبير إلى الحياة و بهجتها ، أريد أن أكرع من لذاتها كما يكرع الطفل من ثديي أمه الحليب و الحنان ،، بي شوق إلى الحياة شديد ، أريد أن أقبل على الحياة بدون مساحيق المجتمع التي تكبلنا و تصنع منا شخصيات غير التي نريد أن نكون ،إن حياة الإنسان تجربة من جملة تجارب عديدة تقع أمام أعيننا كل يوم ، فلماذا نحمل أنفسنا أكثر مما تطيق !؟ و لماذا لا نترك السفينة تمضي حيثما تشاء !؟
الحياة لا تستحق زفرة واحدة و لا دمعة حزن ، فلماذا نندم ، و لماذا نتخاصم و لماذا الإحن التي بيننا ... و لماذا كل هذه الحروب و الخصومات ؟؟! لماذا لا يعيش الناس في محبة و سلام و وئام !؟
أنا أريد أن أحيا كالطفل في عفوية تامة ، إني أكره المساحيق ، مساحيق المجتمع و قيوده الضالة الجانية المجرمة ... أريد ان أكون أنا و ليس كما يريدني الغير .. لماذا لا نعيش التعدد و التكامل و الوحدة !؟ إني لأعجب من تنوع عناصر الطبيعة مع تناسق أجزائها و تكامل أدوارها فلماذا لا نتنوع نحن البشر و نتناسق و نختلف و نتكامل !؟ إن الطبيعة رحبة فلماذا لا تتسع صدورنا للآخر !؟ و لماذا لا نقبله كما هو ، و لماذا نتراشق بالسهام و نتصارع و نتناحر و الشجر يعلمنا أنه كلما قذف بالحجر ألقى بثماره اليانعة !؟
لماذا لا يرتع المرء بين الثمار اليانعة المتواجدة في كل مكان حتى يشعر بالإمتلاء و الحب و الأمل و الأمان .. و تمتلئ حياته سعادة و بهجة و سرورا !؟ إنها ينبوع الحياة و سر الوجود ، الخيرات تملأ الأفاق .. لكن لا أحد بلغ الشبع و الإرتواء ، لماذا كل هذا يا ترى ؟!؟
ما هي قيمة الإنسان إذا لم يقدر على تكريس مباهج الحياة و خيراتها لفائدة أخيه الإنسان !؟ هل خلق الإنسان ليعذب أخاه الإنسان !؟
أواه منك أيها العالم ، كل شيء فيك غريب ؟ عجيب ، محير ، مقرف ، مخجل ، قلت فيك المروءة ،و ندر الحياء ، و انقرضت القيم ، يتحكم في مصيرك الخبيث و اللئيم و المهرجون ، ... أواه ... ثم أواه ... كل شيء فيك يشعر بالإختناق و التأفف ، يظنك الجاهل بخفاياك فيك رواء للضمآن و أنت تسقيه السم الزعاف و لا يشعر ..
!؟ أحياؤك ميتون و ما يشعرون !؟ سوائم بدون قوائم ، و لا يدرون ؟ على وجوههم هائمون !؟
أما متنبؤو العصر الحديث ، المقروءات و المسموعات ... فتلقي الإحن بين الأفراد و الجماعات و المجموعات .. والعداوات !؟ و الناس في غيهم سائرون ، و على نهجهم ماكثون ، لكن أمي أراها أخذت تنزع عنها ثوب الهوان .. و تسير بخطى ثابتة نحو الهدف المراد .. فإلى الأمام يا أعز أم في الوجود .. و لا تخشي شيئا و لا تجبني ، فأنت عاشقة بك صبابة ، و لا يخشى العاشق الولهان .. !



















لا أعرف بالضبط ما الذي جعلني استحضر عبد الحميد لم كنت راجعا من العرض المسرحي الذي أقامته ثلة من الشباب ،كان العرض قد تناول صراع " الذات " م " الآخر "و كيف أن الإنسان بحاجة أكيدة إلى تحديد هويته ، في الحقيقة كان عرضا مملا ، إذ كثر فيه الصخب ، و ردد الممثلون الكثير من الشعارات ،الرنانة التي سئمت سماعها .. خاصة أنها لم تواكب بإبداع فني !؟
" كنت قد اجتمعت مع عبد الحميد في مجلس حضرته نخبة من الشباب ، ، و كان معنا المنذر إلي عاد لتوه من فرنسا لمواصلة تعليمه الجامعي ،بعدما قضى بها أربع سنوات يدرس علم الإقتصاد . و كان المنذر" يزين لنا الحياة في الغرب حتى نعرف الحياة الحقيقية من حياة التفاهة و التعاسة " على حد تعبيره !؟
و قال وهو يهز رأسه في زهو و عجب : " إن الحياة هناك ممتعة و لذيذة ، هناك يا أصدقاء يعرف المرء معنى تدفق الحياة ..، حياة التحضر و العقلية المستنيرة ..لا حياة الجمود و التوحش و الإبتذال !؟ فقال عبد الحميد محتجا : " و لمن نترك هذا الشعب المسكين " أيها المنذر !؟ ثم استطرد قائلا : " الأولى بنا يا أصدقاء أن نفكر في بناء حضارة أرقى من الحضارة الغربية التي تبهرنا .. و حدج عبد الحميد المنذر بنظرة حادة : " ماذا ينقصنا حتى نعول على أنفسنا ، ثروات طائلة و سواعد تنتظر البناء و التشييد !؟ فقال المنذر و قد افتر ثغره عن ابتسامة ظفر و وارتياح ،
- تريدنا يا عبد الحميد أن ننتظر حتى تقام حضارتنا الموهومة ، " ترقب يا دجاجة حتى يأتيك القمح من باجة " و سكت المنذر و حدج الحاضرين بنظرة انتصار ثم نظر إلى عبد الحميد نظرة تهكم و استفزاز و قال و عيناه تتقدان سرورا ، " دعونا يا جماعة نشارك القوم متعهم و نكرع من الحياة كما يكرعون .. و نسلك طريقهم حتى نكون لهم أندادا ، أما عبد الحميد فيدعوكم إلى الوهم و إضاعة أعماركم في ترقب أمل زائف ".
كان الحاضرون يترقبون أن يرد عبد الحميد على هذا التهكم بشدة لكن عبد الحميد استمع إلى المنذر بانتباه شديد ، و صمت قليلا حتى سكت الغضب و الإنفعال عن المنذر و قال بأدب جم : " أصدقائي ، لا تغرنكم كلمات المنذر ، و لا تنسوا أنكم قلب الأمة النابض ، المنذر يدعوكم إلى التخلي عن مسؤولياتكم تجاه أمتكم التي تنتظر منكم خيرا كثيرا . المرء بطبعه يبحث عن السهولة .. و اليسر و يخشى التعب و تحمل المسؤوليات " .
و التفت إلى المنذر و ربت على كتفه و قال موجها له حديثه : " من حقك أيها الصديق أن تذهب إلى هناك و تنعم بحياتك دون أية منغصات .. فنحن لسنا بحاجة لإلى أمثالك ،فأمثالك لا يرجى منهم خير أبدا " .
و تمتم المنذر في ارتباك وهو لا يدري ماذا يقول : " ماذا تقول يا عبد الحميد !؟ أو تظن نفسك زعيم هذه الأمة !؟ و من حملك مسؤولية النهوض بها !؟
ثم قام وهو يهز كتفه مغيظا محنقا : " كلكم قد نصبتم أنفسكم زعماء لهذه الأمة ، كلكم تزعمون أنكم ستنهضون الأمة من كبوتها .. !؟ لكن أين الفعل ؟؟ نريد الفعل يا ناس ؟؟ نريد الفعل ... لقد سئمنا كثرة أحاديثكم ، ورثتم عن العرب القدامى زخرف القول و قلة الفعل ، لم ترثوا عن سوق عكاظ إلا الأحاديث المنمقة " . و صاح بأعلى صوته : " نريد الفعل ... نريد الفعل ...".
و حرك عبد الحميد رأسه موافقا و قال : " الآن نستطيع أن نتحاور ، و نتفاهم ، نريد الفعل ، معك كل الحق في هذا القول !" .
و هتف عبد الحميد من الأعماق و قال : " إن انبهارنا بالغرب سلب منا كل قدرة على الفعل .. إن تقليدنا للنمط الغربي في الحياة قد مسخ شخصيتنا حتى أضحينا عاجزين عن الفعل و الإبداع... إن التقليد يا إخوتي قد أعشى أبصارنا على ما يحمد من حضارة الغرب . حالنا يا جماعة حال الذي يريد أن ينجو من الغرق و ما هو بناج ، ثم قال بصوت ينبعث من أعماق فؤاده : ليتنا أدركنا منذ البداية أن الحضارة : تواصل و إبداع : الإنبهار جعلنا نهتم بالتفاهات دون إدراك الحقائق في التاريخ ..ثم سكت عبد الحميد و استجمع قوته و قال في حزم و صراحة .. : " الغرب ! ذاك الذي يبهرنا بإنجازاته وابتكاراته .. ألا تساءلنا كيف بنى قوته ؟ لقد خضع في مسيرته إلى قاعدة : التواصل و الإبداع ، التواصل يظهر فيما قام به فلاسفة الأنوار من مجهودات جبارة في إحياء ما خلفه أجدادهم مثل سقراط و أفلاطون .. و أرسطو .. ثم نقلوا ما أبدعه علماء المسلمين و فلاسفتهم في شتى الميادين . لقد نقلوا علوم المسلمين و معارفهم دون أن ينقلوا أخلاقهم و تشريعاتهم .. بل شوهوها تشويها مغرضا و حطوا متعمدين من قيمتها "
تململ عبد الحميد قليلا و جعل ينقل طرفه بين الكتب المتراصة في الخزانة ثم استلم كتابا و تصفح أوراقه ، كان الجميع يرمقونه بأعين مسائلة و تنهد عبد الحميد و حدج الجميع بعين فاحصة و قال : " اسمعوا ما يقوله " فولتير" : " إن محمدا ولد أميرا واستدعي لتسلم مقاليد الأمور عن طريق الناس له ... و لو أنه وضع قوانين سليمة ، و دافع عن بلاده ، لكان من الممكن احترامه و تبجيله ، و لكن عندما يقوم راعي إبل بثورة و يزعم أنه كلم جبريل و أنه تلقى هذا الكتاب غير المفهوم الذي تطالع في كل صفحة منه خرقا للتفكير المتزن حيث يقتل الرجال و يخطف النساء لحملهم على الإيمان بهذا الكتاب ، مثل هذا السلوك لا يمكن أن يدافع عنه إنسان لم تكن الخرافات قد خنقت فيه نور الطبيعة ... "
نظر عبد الحميد إلى الوجوه المقطبة الممتلئة حنقا و كأنها تتأهب للإنقضاض على عدو مقيت فشجعه ذلك على مواصلة الحديث فقال بصوت كالزئير و قد تناثر ريقه : "كلهم سعوا إلى ذلك متعمدين ..: " محمد لم يستطع فهم النصرانية ... و لذلك لم يكن في خياله منها إلا صور مشوهة بنى عليها دينه الذي جاء به للعرب ، هذا ما قاله "أديسون" . و وجدت نفسي أسائل عبد الحميد: " و لماذا قاموا بهذا التشويه ؟"
فسدد عبد الحميد نحوي نظرة ذات معنى و قال : " لأنهم يدركون بالبداهة أن مجتمعهم إذا انبهر بقيم مجتمع آخر ، يفقد ثقته بتقاليده و قيمه ، فيتلاشى بذلك الإنسجام الداخلي للمجتمع و يفقد بذلك القدرة على النهوض و بناء الحضارة ...
و سمعنا صياحا و عويلا .. تبعه طرق قوي على باب المجلس ، فخيم الصمت و التساؤل على وجوه الحاضرين ، و ملأتنا الرهبة فأسرع رضا و فتح الباب و حملق في القادم و قال بصوت مرتجف : " هو أنت يا خالد !؟ ماذا تريد!؟ ماذا حدث !؟
فتمتم خالد بصوت خفيض، مهموس: " توفي الشيخ الذهبي، صدمته سيارة هذا المساء... ! و حمل إلى المستشفى .. غير أنه فارق الحياة !؟ نعم فارق الحياة على أبشع صورة يمكن تخيلها !؟
و عم اللغو في المجلس ثم سمعنا عبد الحميد يقول بصوت لا يخلو من رنة الأسف: " رحمة الله عليك يا عم الذهبي ..لقد كانت حياتك عظة .. و كذلك موتك .. !؟ " ثم خرج كل من كان في المجلس و افترقنا .



إني قادم إليك يا عبد الحميد ... لقد جعلت حياتي جحيما لا يطاق ..إني أكاد أهلك ... سأبحث عنك في كل مكان .. إلى أن أجدك .. كانت بي رغبة جامحة لملاقاة عبد الحميد !؟ و سألت عنه فقيل لي إنه هناك ... و ذهبت إلى هناك ... و فجأة وجدتني مع عبد الحميد وجها لوجه ... كان قد انتحى له ركنا ... بإحدى الحانات الكبيرة ... كانت يداه ترتعشان ... وهو يأخذ الكأس ليفرغها في جوفه .. !؟ لما رأيت عبد الحميد على هذه الحال ... أحسست كأن شيئا ينهار داخلي ... !؟ فصحت بأعلى صوتي : " .... سأقتلك يا عبد الحميد ... أنت لم تعد تصلح للحياة ... أنت لم تعد تصلح للحياة ...أنت لم تعد تصلح للحياة ... !؟
واستيقظت مذعورا .. و جاءت أمي مهرولة وهي تقول: " مالك يا بني !؟ فقلت لها : " أمي ... أرجوك أن تحضري لي بقجتي غدا صباحا ... لأني سألتحق بصديقي عبد الحميد ... بالعاصمة، إن الحياة هنا لم تعد تطاق .. و لن أحتملها بعد اليوم .. !؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ردا على حقارة البورقيبيات و البورقيبيين ؟

عروس البحر بين الحقيقة و الخيال ؟!

البلاغ الذكية | ما اسم رئيس تونس القادم؟