خصائص اللغة العربية



خصائص اللغة العربية
بقلم : محمد سالم بن عمر- عضو باتحاد الكتاب التونسيين .
Mohamedsalembenamor21@yahoo.fr
86، حي الليمون ، منزل بورقيبة 7050 / ص.ب :260 ولاية بنزرت – الجمهورية التونسية .
الهاتف: 23038163 (00216)

تمثل اللغة العربية إحدى اللغات العريقة ذات الماضي الأصيل ، و التاريخ الحافل ، وهي لغة ثرية بأبجديتها الوافية التي تضم من الحروف ما لا يوجد كلا أو بعضا في لغات أخرى كالثاء و الحاء و الذال و الضاء و العين و الغين و غيرها ، فضلا عن حرف الضاد الذي تنفرد به دون سائر لغات العالم .
و القارئ للعربية يجد العجائب و الغرائب في أصواتها و حروفها و إملائها و بلاغتها ، في شعرها و نثرها ، فشعرها عقد منظوم تتلألأ منه أنغام الماضي و الحاضر و المستقبل ، بألحان مختلفة يلبي جميع الأهواء ، و نثرها جوهر منثور يزخر بألوان زاهية من البيان الساحر الأخاذ الذي لا يشبع نهم المشتاق و يشفي غليل الطراق ، وهي تفي بالقليل عن الكثير ، و تمج الغث و تعج بالسمين ، تترقرق من أفواهنا كماء الغدير تريح النفس بعذوبتها و تهدر كالبحر الهائج فتثير النفس و تشمخ بها نحو القمم ، و قديما قيل :" كلم اللسان أنكى من كلم السنان " فكم من شخص لقي حتفه بكلمة و آخر نجا من الموت بكلمة ، و كم كلمة رفعت صاحبها و أخرى أذلته .
و لقد مثلت اللغة العربية و لا تزال هوية الأمة الإسلامية ، و لسانها الناطق ، و قلبها النابض و عقلها الواعي الذي يحوي تراثها و ثقافتها و مجدها و رمز وحدتها ، و منذ مجيء الإسلام استطاعت اللغة العربية أن تؤدي رسالتها كاملة ، فتنشر الدين الإسلامي في جميع الآفاق ، و أن تستوعب بوفاء و أمانة علوم الأمم الأخرى و ثقافتهم ،و هاهي اليوم تواصل رسالتها في الحفاظ على وحدة مجتمعاتنا الإسلامية بغير كلل أو إعياء . يقول المستشرق الألماني " بروكلمان " : " بفضل القرآن بلغت العربية من الإتساع مدى لا تكاد تعرفه أية لغة أخرى من لغات الدنيا. و المسلمون جميعا مؤمنون، بأن اللغة العربية هي وحدها اللسان الذي أحل لهم أن يستعملوه في صلواتهم، و بهذا اكتسبت العربية من زمان طويل مكانة رفيعة فاقت جميع لغات الدنيا الأخرى".
لقد نص الله تعالى في كتابه الكريم على أنه أنزل " قرآنا عربيا " و " بلسان عربي مبين " ملقيا بذلك المسؤولية في حمل الرسالة المحمدية إلى البشر على كواهل هذه اللغة الشريفة ، لأن الله قد شرفها بأن اختارها ، لأول مرة و لآخر مرة ، ليخاطب بها بني آدم عبر كتاب معجز حوى نصوصا حرفية من كلامه المعجز عز و جل ، توجه بها إلى الناس كافة معلنا لهم دينه الذي ارتضاه لهم ، و واضعا لدنياهم و لآخرتهم القواعد و الأسس الفطرية التي تصلح أن يستقيموا عليها و إلى الأبد . فهذه ميزة تنفرد بها اللغة العربية ، و تتربع على عرش اللغات جميعا لأنها لغة القرآن الكريم الذي نزل به الروح الأمين على سيد الخلق ، خاتم الأنبياء و المرسلين محمد صلى الله عليه و سلم : " و إنه لتنزيل رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، على قلبك لتكون من المنذرين ، بلسان عربي مبين " ( سورة الشعراء الآيات 192 – 195 ) .
و هذا التكريم الذي خص الله به اللغة العربية جعل منها لغة عالمية لأن محمدا صلى الله عليه و سلم أرسل إلى الناس كافة ، كما جعل منها لغة باقية بما جاء به من تشريع أزلي يتماشى و فطرة الإنسان و خلقته صالح لكل زمان و مكان ،و ارتقى بها بما اشتمل عليه من عقيدة سليمة ، و مثل سامية ، و قيم رفيعة سامقة تتمثل في تحرير العقول من السفه و من كل المعوقات الفكرية التي قد تحجب عنها حقائق الوجود ، و تحرير القلوب من العمى و الدروشة ، و في الدعوة إلى الإيثار ، و التضحية ، و الحب و التسامح ، و الرحمة ، و الحق و العدل ، و التنفير من الرذيلة في أي مكان و أي زمان . و كل هذا يجعل من اللغة العربية ضرورة حتمية لفهم القرآن و مدلولاته الدقيقة و في ذلك يقول الشافعي : ( فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به بأن لا إلاه إلا الله و أن محمدا رسول الله و يتلو به كتاب الله و ينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير و التسبيح و التشهد و غير ذلك . و مهما ازداد من العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته و أنزل به آخر كتابه كان خيرا له ).
و يضيف ابن تيمية رحمه الله : ( فإن نفس اللغة العربية من الدين و معرفتها فرض وواجب فإن كتاب الله و السنة فرض و لا يفهم إلا بفهم اللغة العربية ، و ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ).
و يتابعه في ذلك أبو منصور الثعالبي في مقدمة كتابه : ( فقه اللغة و أسرار العربية ): " من أحب الله أحب رسوله المصطفى صلى الله عليه و سلم ، و من أحب النبي العربي أحب العرب ، و من أحب العرب أحب اللغة العربية التي تنزل بها أفضل الكتب على أفضل العجم و العرب ". و قبل هؤلاء جميعا أشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى العلاقة الوثيقة و المتينة بين الدين الإسلامي الذي جعله الله سبب صلاح بني آدم دنيا و آخرة و بين اللغة العربية لغة أهل الجنة فقال : ( تعلموا العربية فإنها من دينكم ) . فأي مسلم هذا الذي يتنكر للغة العربية لغة القرآن و لغة الرسول الأكرم صلى الله عليه و سلم !؟
إن اللغة العربية خصبة باشتقاقها و سهولته ، ثرية بكثرة ألفاظها و تصريفها ، مما يكسبها مرونة خاصة ، و يمنحها عطاء متجددا ، و يجعلها أقدر اللغات على التعبير في كافة العلوم و الفنون و مختلف المجالات الحياتية ، يقول المستشرق " جوبيوم " في مقدمة كتابه (تراث الإسلام ): "إن اللغة العربية لغة عبقرية لا تدانيها لغة في مرونتها و اشتقاقها و خاصة ما يتصل بالفعل و الإسم . فمثلا مادة الفعل "دار" يشتق منها : أدار ، و دوّر، و تدوّر،و تداور، و داور ، واستدار ، و دوْر ، و دوران و دوار، و داره و دوّار، و مدار و مدارة ، و مدير،وهكذا .."
كما أن للعربية قدرة على التجريد و النزوع إلى الكلية و الشمول حيث تتلاقى كلماتها في الغالب على أصول تجمع بينها و تتجلى فيها ، فعلى سبيل المثال نجد الكلمات ذات الأصول من السين و اللام و الميم تلتقي عند أصل يجمع بينها وهو التعري عن الآفات الظاهرة و الباطنة ، فيتمثل معنى التعري عن الآفات الظاهرة في قوله تعالى في سورة البقرة آية 71 : (إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض و لا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها ). فكلمة مسلمة تشير إلى أن الله قد سلم البقرة المطلوبة من العيوب أو سلمها أهلها من العمل. و يتمثل معنى التعري عن الآفات الباطنة في قوله تعالى في سورة الشعراء الآية 88 و 89 : ( يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم). فالقلب السليم هو الخالي من الدغل واستبطان الحقد و العداوة أو السالم من الدنس و الشرك بالله أو السالم من البدعة المطمئن إلى سنن الله . و لقد صور لنا القرآن الكريم ما يعتري نفوس البشر و حالاتهم في المواقف المختلفة ، أدق تصوير ، بكلمات دقيقة تحمل كل منها معناها حتى و لو كان الإختلاف بين الكلمات في حرف واحد كما في كلمتي اهطاع و اهراع و قد ورد في لسان العرب قولهم : " لا يقال للإسراع في السير إهطاع إلا إذا كان معه خوف ، و لا إهراع إلا إذا كان معه رعدة . و يلاحظ أن هذا الإختلاف في المعنى في قوله تعالى : ( خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر ، مهطعين إلى ألداع يقول الكافرون هذا يوم عسير) سورة القمر آية 7- 8. مقارنة بقوله تعالى : (ثم إن مرجعهم لا إلى الجحيم . إنهم ألفوا آباءهم ضالين، فهم على آثارهم يهرعون، و لقد ضل قبلهم أكثر الأولين ) سورة الصافات الآيات 68 -71. هذا بالإضافة إلى أنها اللغة ذات الصوت الواضح المميز ، و ذلك راجع إلى دقة مخارج حروفها ، و إلى التأكيد على إظهار هذه الحروف ، و لا سيما ما يحتاج منها في نطقه إلى ضغط أو نبرة معينة كحروف القلقلة ، و الحروف التي تخرج من بين الثنايا ، و غيرها بعكس ما هو ملحوظ في بعض اللغات الأخرى التي لا تحفل بذلك ، فلا يكاد الحرف فيها يبين ، أو تكثر بكلماتها الحروف الساكتة ، أو التي يتلاشى بعضها في بعض أثناء النطق . هذه الخصوصيات التي تتميز بها اللغة العربية يجعلها تقبل عن جدارة الإعجاز البياني و ضروبه مما لا يتوافر في الكثير من اللغات الأخرى لكون ذلك طبيعيا فيها بفضل جزالتها و دقة أوضاعها و إحكام نظمها واجتماعها على تأليف صوتي يكون موسيقيا محضا في التركيب و التناسب بين أجراس الحروف و الملائمة بين طبيعة المعنى مما يجعلها قريبة من نفس كل إنسان لاتفاقها مع فطرته . و قد أدى كل ذلك إلى وجود كلمات ليس لها مقابل في اللغات الأخرى من ناحية الدلالة مثل : الحق – الرحمة – الرحمان – العالمين ... يقول الدكتور محمد جمال الدين الأفندي في الفصل الرابع من كتابه ( الإسلام و قوانين الوجود ) : " و لا أظن أن هناك لغة تستطيع أن تعبر عن كثير من ألفاظ القرآن ، أو تستوعب معانيه غير العربية .. فقد كنت ضمن لجنة لترجمة معاني القرآن، - و لا أقول ألفاظ القرآن أو القرآن نفسه فهذا أمر مستحيل – و وقفنا طويلا أمام بعض الكلمات لا نجد المستعملة عادة في god لها مقابلا مثل كلمة " الرحمان" و كلمة " الله " و حتى كلمة "رب " ليس معناها "قود"
الترجمات و كلمة " العالمين " ليس معناها الكون و "عباد" ليست بمعنى عبيد و لا حتى خدم ".
إن هذا الإعجاز البياني يجعل من طواعية العربية الفصحى و مرونتها و قدرتها على مطالب النفس الإنسانية بمشاعرها و انفعالاتها لا تدانى ، و اللغة العربية مع هذا تمتلك من مقومات الجمال ما تستحق به عن جدارة أن يطلق عليها لغة الجمال ، يتجلى ذلك فيما حوته من روائع الكتاب و السنة ، و فيما زخرت به من حكم و أمثال و في خطها العربي بأنواعه المختلفة ( النسخ ، و الرقعة ، و الثلث و الفارسي ، والديواني .. ) و غيرها مما لا تضارعها فيه لغة أخرى ، و في موسيقاها النابضة المعبرة الشجية الملونة التي تجد مجالها فسيحا في التنوين ، و الإدغام و المد ، و الإمالة ، و السجع ، و غيره ، و في ألوان البديع ، و في بعض بحور الشعر كالمتقارب و المتدارك ، و الهزج ، و الرجز ، و مجزوء بعض البحور كالوافر و الكامل و غيرهما .
إن هذه الخصوصيات الكثيرة التي تميزت بها اللغة العربية و جعلتها تتربع على عرش اللغات جميعا بما احتوت عليه من ضروب البيان و البلاغة و الإعجاز و سهولة الإشتقاق منها ، و قدرتها العجيبة على التعبير عن كل خلجات النفس البشرية في أفراحها ، و أتراحها ، في هزلها و جدها ، في علومها و أدبها ، مما رشحها للتعبير عن كلمات الله التي تحدت الإنس و الجن أن يأتوا بمثلها فعجزوا : ( و إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ، فإن لم تفعلوا و لن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس و الحجارة أعدت للكافرين) سورة البقرة الآيات 23- 24 .
كل هذا التميز لم يشفع لها من التراجع و الإنحدار إلى مستوى لم تعد تحسد عليه ، و أصبحت هذه اللغة الجميلة الرائعة تعيش محنة تذيب قلوب العاشقين لها حسرة و كمدا ، أمام ما يتهددها من أخطار و مكائد تحاك لها من قبل الناطقين بها و غير الناطقين سواء وعوا بذلك أو لم يعوا .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ردا على حقارة البورقيبيات و البورقيبيين ؟

عروس البحر بين الحقيقة و الخيال ؟!

البلاغ الذكية | ما اسم رئيس تونس القادم؟